في إجراء يعود إلى عام 2011، ويكشف عن نهج الوصاية الأميركية المستمرّة، مدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب حالة الطوارئ المتعلّقة بليبيا لمدة عامٍ إضافي. وفي مفارقة غريبة زمنيًّا ومكانيًّا، وعلى الرَّغم من أنّ المسافة بين العاصمة الليبية طرابلس وواشنطن، تبلغ حوالى 8.400 كلم، وتستغرق في حالة الطيران المباشِر نحو 11 ساعة، اعتبر ترامب أنّ الأوضاع في ليبيا "لا تزال تشكّل تهديدًا غير عادي واستثنائيًّا للأمن القومي والسياسة الخارجية" لبلاده، لافتًا إلى الحاجة لاتخاذ "تدابير لحماية الأصول الليبية ومنع إساءة استخدامها من قِبَلِ أفراد عائلة القذافي أو المقرّبين منهم أو أي جهات تعرقل المصالحة الوطنية الليبية".
تبدو الذّريعة المستمرّة حول "تهديد الأمن القومي الأميركي" غير منطقيّة، وتطرح تساؤلات حول كيف يمكن لدولة في شمال أفريقيا، غارقة في صراعات داخلية، أن تُشكّل تهديدًا غير عادي للولايات المتحدة؟ بينما ساهم التدخل الأميركي منذ عام 2011 في تفكيك الدولة الليبية وإشعال الفوضى فيها!.
واشنطن التي تسعى للإبقاء على نفوذِها المباشِر في ليبيا، عبر التحكّم في أصولها المالية، بدلًا من دعم حلّ سياسي فعلي، تعود عسكريًا بعد غياب لأكثر من نصف عقد، حيث نفّذت القوات الجوية الأميركية ما وصفته بـ"نشاط جوي" في ليبيا، بهدف تحسين قدرات الدفاع الجوي ومراقبة الحركة الجوية.
وعلى الرَّغم من الادعاء الأميركي بأنّ هذه المناورات، خطوة نحو إعادة توحيد المؤسّسات العسكرية الليبية، فإنّها مثّلت فرصة لأول ظهور علني للقاذفة الاستراتيجية الأميركية من طراز 52B-، في أجواء مدينة سرت، وسط ليبيا، الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني بقيادة المُشير خليفة حفتر، المتمركز في شرق البلاد وجنوبها.
في تقييمه لما حدث، رأى وزير الدفاع الليبي السابق محمد محمود البرغثي أنّ "أميركا تستعرض بقوّاتها في منطقة سرت وسط ليبيا، قبالة تواجد القوات الروسية في الجفرة، لتقول نحن هنا أيضا"، وقال لـ"عروبة 22": "هذا دليل على تخاذل السلطات الحاكمة في ليبيا، حيال تواجد القوات الأجنبية، سواء التركية أو الايطالية أو الروسية او الأميركية".
العودة الأميركية، عبْر التدريب المشترك مع قوات حفتر، تُمثّل بحسب مقرّبين من الأخير، نقلة نوعية في العلاقات، علمًا أنّ القوات الأميركية التي كانت متواجدة في طرابلس، انسحبت منها، بينما كانت قوات حفتر تحارِب للسيطرة عليها عام 2019، باعتبارها الجائزة الكبرى في الصراع والمركز المالي لليبيا، حيث عائدات مبيعات النفط، ومقرّ البنك المركزي الذي يدفع رواتب الجنود وموظّفي الدولة.
هواجس غربية
في المقابل، وعلى الرَّغم من إشادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالدور المحوري للمشير حفتر، فقد بدا اجتماعهما الأخير في باريس على صلة بقائد المعارضة في النيجر محمود صالح، الذي اعتقلته قوات حفتر مؤخّرًا خلال عملية نوعية بمنطقة القطرون في الجنوب الليبي.
فرنسا المتواجدة في "قاعدة ألويغ" العسكرية في أقصى جنوب ليبيا على الحدود مع النيجر، تسعى للتعبير عن تململ غربي من جرّاء التهديدات الأمنية للوضع العسكري.
مناورة حفتر
من شأن الابتعاد المتزايد لحفتر عن الغرب وعلاقاته القوية مع روسيا، كعامل رئيسي، أن يغيّر التوازن الجيوسياسي في ليبيا، كما ذهبت بعض التقارير التركية.
وكان حفتر قد أنهى لتوّه زيارة إلى بيلاروسيا، في إطار تنويع مصادر السلاح والحصول على الخبرة العسكرية، وهو ما جسَّده إعلان القوات البرّية عن عودة دفعة جديدة من قواتها الخاصّة إلى مدينة بنغازي، بعد اجتياز دورات تدريبية متقدّمة في بيلاروسيا.
حفتر الذي يُجيد لعبة التوازنات، يتجنّب اتخاذ مواقف حادّة تجاه أيّ من اللاعبين الاقليميين والدوليين في الملف الليبي.
لهذا يعتقد البعض أنّ وجود القوات الأميركية سيضُعف النفوذ التركي، في منطقة غرب ليبيا، بعد موافقة عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة المؤقتة، على تحويل المنطقة إلى قاعدة عسكرية أميركية، مقابل تعزيز أميركي لسلطته المشكوك فيها.
وتبدو الخطة الأميركية لتشكيل فيلق من قوات المنطقة الغربية، ردًًّا صريحًا على تحرّكات روسيّة لتكوين فيلق مضادّ في ليبيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر، سيتولّى عمل شركة "فاغنر" العسكرية من مقرّه في أفريقيا الوسطى، ضمن استراتيجية لاستنزاف القوة العسكرية لأميركا وتقويض مصداقيتها.
أخطاء الماضي
ولم يمنع تخلّي واشنطن عن جميع تحفّظاتها السابقة لتصبح المحرّك الرئيسي لعملية التسوية، من النّظر إلى رؤيتها لمستقبل ليبيا، على أنّها غير واقعية، وتعيد أخطاء الماضي.
في مواجهة نفوذ روسيا والخوف من تضرّر المصالح الأميركية، يرجّح تركيز أميركا على عمليّة إعادة تأهيل وتدريب التشكيلات المسلّحة في الغرب الليبي، كورقة مساومة.
وبينما تُعيد واشنطن تفعيل وجودها العسكري في ليبيا، يظلّ الحديث عن توحيد الجيش الليبي مجرّد "حبر على ورق"، إذ يظلّ تواجد الميليشيات المسلّحة المصحوبة بجيش من المرتزقة الموالين لتركيا في الغرب الليبي، عقبةً أمام تحقيق هذا الهدف، لكي تُبقي الفوضى في ظلّ التنافس الدولي المحتدم على هذه الدولة الغنيّة بالموارد!.
(خاص "عروبة 22")