حافظ السوريون على وحدة كيانهم وسط أحداث وتطوّرات عاصفة، شهدتها سوريا والمنطقة في الأعوام التسعين الماضية، حملت أخطار كبرى على وحدتها، وتضمنّت قائمة الأحداث انقلابات عسكرية وصراعات داخلية سياسية ومسلّحة عنيفة، بلغت أوجها في حرب نظام بشار الأسد على السوريين ما بين 2011 و2024، كما واجهت في خطّ موازٍ حروبًا إقليمية منها ثلاثة كبرى، كانت سوريا طرفًا فيها، وأخرى كانت في جوارها، لم تكن سوريا على حياد فيها، وقد خرجت منها جميعها بأقل الخسائر العملية في التأثير في وحدة كيانها السياسي، على الرَّغم من تقصير سلطاتها في عمليات التنمية والتطوير والدمج الوطني من جهة، واتّباع أغلبها سياسات طائفية ومناطقية من جهة ثانية، كانت وحدها كفيلة بتفتيت الكيان السوري وتحويله إلى دول وكيانات متعدّدة ومتصارعة، لولا إرادة السوريين، وظروف إقليمية ودولية، ساهمت مع سابقتها في منع تقسيم البلاد.
التركة الثقيلة لنظام الأسديْن نهج واحد له أهداف عامة واحدة في مسار إخضاع السوريين واستعبادهم
وسط إرث متواصل لعقود في الحفاظ على وحدة الكيان السوري، يبرز السؤال عن سبب المخاوف الراهنة والمتصاعدة حول احتمالات تشظّي سوريا وتقسيمها، والأمر يستند إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية، ولعلّ الأبرز في العوامل الداخلية ثلاثة.
العامل الأوّل، أساسه إرث من المخاوف المتراكمة، ويجد تعبيراته الأهمّ في جهل متبادل حول طبيعة وواقع مكوّنات الجماعة الوطنية في سوريا، حيث يتمّ تداول أساطير وأفكار غيبيّة وأكاذيب، تحيط ببعضها مما يخلق مخاوف ظاهرة وبعضها كامن، يمكن أن تطلقَه ظروف سياسية واجتماعية وأمنية مفاجئة أو مصطنعة، وبعضها تمّ استغلاله من قبل سلطات حاكمة في مراحل معيّنة لتمرير سياسات ومواقف.
والعامل الثاني حاضر في التركة الثقيلة، التي تركتها أكثر من خمسة عقود من نظام الأسديْن في السياسات والممارسات، دفعت سوريا والسوريين إلى ما صاروا إليه. بلد ودولة في أدنى مراتب التصنيف العالمي، نظام ديكتاتوري مستبدّ، يستوطن فضاءً فجًّا للفساد والنهب وإنتاج وتصدير المخدرات، وصناعة الإرهاب بأنواعه من إرهاب الدولة إلى الجماعات والأفراد، وميدانًا لتجريب الأسلحة واختبارها، ومصْدرًا لتجارة الأعضاء البشرية، وشعبًا يعاني من القتل والاعتقال ودمار الإمكانيات والموارد، وقد صار أفقر شعوب العالم وسط فقدان فرص العمل بالتّوازي مع ندرة خدمات الصحة والتعليم والمواصلات، شعب مشتّت أكثر من نصفه بين نزوح داخلي، وأكثر من ثلث سكانه مهاجرًا ولاجئًا إلى شتات في أكثر من 100 دولة عبر العالم.
دفعت العقود الطويلة لنظام الأسد السوريين في حفرة عميقة الخروج منها مُحاط بصعوبات كثيرة
وعلى الرَّغم من أنّ التركة الثقيلة لنظام الأسديْن، تبدو متماثلة باعتبارها نهجًا واحدًا له أهداف عامة واحدة في مسار إخضاع السوريين واستعبادهم، فإنّ ثمة تفاصيل تُميّز بين الأسد الأب ووريثه. ففي اعتماد العنف نهجًا في إخضاع السوريين، استخدمه الأول من دون أن يذهب إلى أقصاه، ويصير سببًا في سقوط نظامه بخلاف ما فعله وريثه، وثمّة الكثير من أمثلة التمايز من دون اختلاف في الأهداف، وهذا لا يستند فقط إلى اختلافات تفصيلية بين الشخصيْن، بل أيضًا إلى اختلاف الظروف المحيطة وتحدياتها.
لقد دفعت العقود الطويلة لنظام الأسد السوريين في حفرة عميقة، يشكّل الخروج منها الخطوة الأولى والتي لا بدّ منها في الذهاب إلى تطبيع حياة السوريين وأخذهم نحو المستقبل، وهو ما يشكّل العامل الثالث في أسباب مخاوف السوريين من تقسيم سوريا، لأنّ الخروج من الحفرة ليس سهلًا، بل مُحاط بصعوبات كثيرة، تتجاوز صعوبة حالة السوريين وحالة بلدهم المدمّر بصورة كلية، وصولًا إلى أنه محكوم بسلطات أمر واقع همّها السلطة، إضافة الى غياب القدرات والإمكانات وقلّة الموارد، وسط واقع يفرض تأمين احتياجات السكان الأساسية من الطعام والشراب والسكن والعمل والتعليم والصحة، بالتزامن مع تأمين أوضاعهم الأمنية، ومن دون تحقيق ما تقدّم لا يمكن للسوريين الخروج من حفرة الأسد، والبدء في مسار تطبيع حياتهم.
لن يكون للتقسيم مكان في حياة السوريين
إنّ الخروج من حفرة الأسد، يمثّل التحدّي الأول والأهمّ للسوريين، حكّامًا ومحكومين، ممن يسعون للنجاة أيًّا كانت توجّهاتهم، مما يتطلّب رفع مستوى العلاقات بينهم نحو مستوى غير مسبوق، يتطلّب توافقًا في المواقف والسياسات، لا يقتصر على العلاقات الداخلية المُشبعة بالحرية والمسؤولية، والقائمة على أُسُس الانفتاح والتعاون والمساواة والعدالة من جهة، بل أن يتكرّس التوافق حول مضمون العلاقات الخارجية، وقيامها على أساس المصالح والمنافع المتبادلة من أجل توفير الحدّ الاقصى من التوازن في خدمة المصالح السورية ومصالح الشركاء الآخرين في المستويين الإقليمي والدولي من جهة ثانية. وإن استطاع السوريون مواجهة هذا التحدّي، فلا شكّ أنهم سوف يتجاوزون كلّ التحديات والمخاوف، ولا سيما مخاوفهم من التقسيم، التي لن يكون لها مكان في حياتهم.
(خاص "عروبة 22")