ثقافة

"أصيلة" الرّمز.. حين تودّع محمد بن عيسى!

ثمّة مدن يمكن وصفها بأنّها مدن رمزية، هي أقرب إلى المفاهيم منها إلى الحواضر، مثل أثينا في العصر اليوناني القديم التي تحيل إلى الفلسفة والديموقراطية، والقدس التي هي مدينة التوحيد والديانات السماوية، وفينيسيا الإيطالية التي ترمز لعصر النهضة الأوروبي.

من بين هذه المدن "أصيلة" في شمال المغرب التي تحوّلت خلال الأربعين سنة الأخيرة إلى مركز ثقافي وفكري عالمي، تلتقي فيه سنويًا وجوه الثقافة والفكر من كل أصقاع العالم للتداول في موضوعات الساعة ومستجدّات الشأن الاستراتيجي والاجتماعي العربي والأفريقي والدولي.

أسَّس هذا التقليد في نهاية الستينيّات ابن مدينة أصيلة محمد بن عيسى (1937 – 2025) الذي رحل مؤخّرًا بعد أن أفنى عمره في التقريب بين الثقافات والحضارات، وحوّل مدينته إلى ملتقى نشِط بين ذوي الرّأي والفكر من العالم العربي وأفريقيا وأوروبا.

كانت أصيلة سبّاقة إلى تناول الموضوعات التي شغلت الحقل الثقافي

الذين زاروا أصيلة في نهاية السبعينيّات هالهم مظهر القرية الكبيرة التي كانت تفتقد إلى كل مقوّمات الحياة المدنية من كهرباء وماء وخدمات فندقية، على الرَّغم من أنها استضافت منذ مواسمها الأولى أعلامًا بارزين من أمثال الروائي السوداني الطيب صالح والرئيس الشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور والشاعر العراقي المعروف بلند الحيدري... يحدّثنا بن عيسى كيف كان يستقبل ضيوفه في بيته الصغير داخل أسوار المدينة، وكيف كان يسقيهم من البئر المحفورة في فناء الدّار ويتقاسم معهم رغيفه المتواضع... ومع ذلك سرعان ما حقّق المهرجان الصيفي شهرته، إلى حدّ أنّ الملك الراحل الحسن الثاني أطلق عليه تسمية" هايد بارك المغربي"، وأصدر تعليماته لوزير داخليته بتسهيل دخول المثقفين من مختلف المشارب الفكرية إلى البلاد لحضور هذه المناسبة السنوية التي انتشرت على أوسع نطاق.

ومع أن بن عيسى تولّى وظائف عليا في بلاده، وزيرًا للثقافة ثم سفيرًا في واشنطن ووزيرًا للخارجية، إلّا أنه حافظ على الموسم في وقتِه، فكان ينتقل إلى مدينته الصغيرة، مستقبلًا ضيوفه ببشاشة، ومشرفًا على أدقّ تفاصيل الندوات والأنشطة التي يتضمنّها المهرجان.

لقد كانت أصيلة سبّاقة إلى تناول الموضوعات الفكرية التي شغلت الحقل الثقافي لاحقًا، مثل حوار الحضارات وعلاقات الشمال والجنوب، والعوْلمة، والتحوّل الديموقراطي في العالم العربي، والعلاقات العربية – الأفريقية.

من النّادر أن تلقى مثقّفًا عربيًّا وأفريقيًّا أو غربيًّا كبيرًا لم يشارك في مهرجان أصيلة في أحد مواسمها الغنية بالنقاش الفكري المفتوح والحرّ. ولقد تسنّى لي خلال سنوات طويلة المشاركة المنتظمة في هذه المناسبة السنوية، فتعرّفت إلى وجوه بارزة من مختلف الأصقاع، يجمعهم التعلّق بهذه المدينة الساحرة.

حوّل بن عيسى مدينته إلى رمز للثقافة الإنسانيّة الكونيّة

بعد سنوات من الجهد المضني المتواصل، استطاع بن عيسى بعلاقاته الشخصية الواسعة تأمين بنية تحتية مناسبة لأنشطة مهرجانه، من بناء مركز دولي للمؤتمرات (مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية) ومكتبة فسيحة تحتضن الفعاليات الأساسية (مكتبة الأمير بندر بن سلطان) وقصر للثقافة تنظّم فيه الأنشطة الفنية والاستعراضية.

أصيلة هي أيضًا مدينة الفن التشكيلي على المستوى المغربي والعربي، بجداريّاتها في الشارع ومراسمها المفتوحة ومراكز تدريب الأطفال والشباب التي خرّجت عشرات الفنانين المعروفين.

كما أنّ أصيلة هي مدينة الإبداع الأدبي، وقد أسندت جوائز كبرى للاحتفاء بالشعراء والروائيين، كما كرّمت الكثير من رموز العلم والثقافة والفكر من داخل المغرب وخارجه.

كلّ هذه المنجزات النوعية يعود الفضل فيها إلى الوزير المثقّف البارز محمد بن عيسى الذي غادر عالمنا مؤخّرًا، وقد عُرِفَ بحسّه الإبداعي ومنهجيته الدقيقة في التنظيم وخصاله الإنسانية الرفيعة التي جعلت منه صديق البسطاء وعامّة الناس على الرَّغم من المناصب العالية التي تبوّأها في حكومة بلاده.

رحم الله محمد بن عيسى ابن أصيلة التي حوّلها إلى مفهوم ورمز للثقافة الإنسانيّة الكونيّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن