تحوّل التاريخ العربي إلى موروث مُقدّس، وأسطورة تمرح في بحر التخيّل لوقائع مختارة تصنع تصوّرات مضلّلة لم تتحقّق على أرض الواقع. تفكيرٌ بالتمنّي ينتج فكرة التاريخ كما نريده ونتخيّله لا كما جرى لكي نستفيد منه. تحوّل هنا إلى سلسلة من الانتصارات المتخيّلة لتكريس غيبوبةٍ تعمّق من مأزق الثقافة العربية المعاصرة، لكن لا أحد - قلّة فعلت ذلك لكنها تظلّ على الهامش قياسًا بالمجرى العام - طرح على التاريخ العربي الأسئلة التي يجب طرحها، لمعرفة كيف وصل العرب إلى ما وصلوا إليه من مشهد يكفي أن نشاهد ساعة واحدة على أي نشرة إخبارية لنعرف فداحته.
يمكن أن نعدّل مقولة ماركس الشهيرة في حالتنا لتصبح: "التاريخ أفيون الشعوب"
أصبحت الأسئلة عن أسباب الانحراف في تاريخ العرب غير مطروحة، لا مفكّر فيها بمصطلح محمد أركون، فقط تُرفع رايات التقديس والطائفية والتحزّب حول هذا الشخص أو ذاك طالما ينتمي إلى الطائفة أو المذهب.
إنقاذ التاريخ العربي ودراسته والتأريخ له ضرورة لكي لا يتحوّل إلى عائق وعار نحمله على كاهلنا، في عصر التاريخ المدرسي سواء من قبل الأنظمة في المدارس النظامية، أو مشايخ السلفية في مجالسهم. يتحوّل إلى أداة لتكريس قيم التسليم للاستبداد بكلّ أشكاله من ناحية، وتكريس ثقافة تُعادي العقل والمنطق وتغرق في أساطير التاريخ المتخيَّل من ناحية أخرى، واستدعاء قيم نرجسية تعزّز شعورًا بالاستحقاق وتحقّق النصر الإلهي من دون أي عمل حقيقي على الأرض من ناحية ثالثة. هذه خلطة مُدمّرة لأي أمّة تبحث لنفسها عن موقع بين الأمم، فالتاريخ هنا يتحوّل لمُسكّن ومُخدّر يعوّض عن الفشل الحضاري الذي يعيشه العرب، بحيث يمكن أن نعدّل مقولة ماركس الشهيرة في حالتنا لتصبح: "التاريخ أفيون الشعوب".
لا سبيل للتقدّم إلا بالعمل والإنجاز العِلمي
فالبعض يُركّز على تاريخ الحكام لا الشعوب، والبعض يستند إلى التاريخ للإيمان بالنصر الإلهي، لكن هذا لا يتحقّق إلّا بالعمل والاندماج في روح العصر العِلمية وإنتاج مفردات حضارة تحقّق الرخاء للمجتمعات في الأساس كشرط أساسي لأي تقدّم.
إنّ درس التاريخ المُهمَل في ثقافة باتت تنكر الهزائم وتتعامى عنها وتُسمّيها انتصارات، هو أن لا سبيل للتقدّم إلا بالعمل والإنجاز العِلمي، وهذا لا يتأتّى إلّا باستنقاذ التاريخ من مناخ الأسطورة الذي حوّل التاريخ إلى مُسلمّات لا تُناقَش وأفكار جامدة لا تُفكّك بحثيًّا، فالبعض يعتمد على اختيار متعمّد لتعزيز الشعور بالاستحقاق التاريخي للعرب من دون أي تركيز على عوامل النّهوض والتراجع والحقيقة الموجودة في تراثنا، لكن هذا لا يمكن فهمه من منطلق الدراسة السياسية التي لم تفقد مبرّرات وجودها، لكنها فقدت صدارة أي دراسة تزعم لنفسها محاولة الفهم.
سيزول الإشكال عندما نتناول شخصيات تاريخ العرب والمسلمين من منطلق واقعي، أي أنّهم بشر يجري عليهم ما يجري على غيرهم، بما يعني نسف وَهْم الخصوصية الإسلاموية وما يجرّه من استحقاق واستعلاء وأوهام، وهو شرط أساسي لأي قراءة صحّية تنطلق من البشري وتنتهي عنده.
لكي يكون التاريخ مكوِّنًا أساسيًّا في أي مشروع نهضوي يجب أن يستند إلى قراءة تُخضعه لمشرط البحث العلمي
ففي أي قراءة تاريخية لا بدّ من استعادة التاريخ الحضاري والتركيز على تاريخ تطوّر العلوم ومقدار الإضافة الذي حقّقه علماء المسلمين باللغة العربية عندما كانت لغة العِلم، لا التوقّف عند الصّراعات السياسية التي هدفها إسقاط مُعاصِر على وقائع من زمن فات منتزعة من سياقها، فاستعادة التاريخ لكي يكون مكوِّنًا أساسيًّا في أي مشروع نهضوي، يجب أن يستند أساسًا إلى قراءة بشرية تنزع المقدّس عن تاريخنا وتُخضعه لمشرط البحث العلمي وتنفي عنه الأسطورة.
(خاص "عروبة 22")