وجهات نظر

إنّها حركة مواطِنية قاعدية وليست شعبوية!

تشهد أوروبا، منذ مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تحوّلًا نوعيًّا في دينامية الحركة السياسية. يتجلّى هذا التحوّل في بزوغ قوى سياسية: حزبية، وحركية جديدة؛ أخذت، بالتدريج، في أن يكون لها أولًا: حضور على الخريطة السياسية الأوروبية باتجاهاتها الأربعة بدرجة أو أخرى، وثانيًا: أن تنافس القوى التقليدية التي عرفتها القارة الأوروبية بخاصّة في غربها وشمالها عقب الحرب العالمية الثانية، وثالثًا: الحصول على نسب تصويت عالية، ومن ثم أعداد من المقاعد الوازنة سواء في الانتخابات الوطنية من جهة، أو انتخابات البرلمان الأوروبي من جهة أخرى. وكان من محصلة ما سبق أن اعتبر بعض الباحثين، مبكّرًا أي قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، أنّ ما يجري في القارة الأوروبية هو "تأسيس لزمن جديد" - ديموقراطي - سوف يتجاوز تأثيره القارة الأوروبية إلى خارجها مع مرور الوقت.

إنّها حركة مواطِنية قاعدية وليست شعبوية!

في محاولة لتوصيف طبيعة تلك القوى البازغة والتي استطاعت خلال ما يقرب من عقد من الزمان أن تُزحزح قوى سياسية تاريخية ظلّت راسخة في العملية الديموقراطية على مدى أكثر من ستة عقود من الزمان، مال فريق من المحلّلين إلى توصيف تلك القوى بـ"الشعبويّة"؛ وسار من خلفهم الكثير - وربّما الأغلبية - من المحلّلين في منطقتنا إلى اعتبار تلك القوى موجة شعبوية جديدة تُعدّ امتدادًا للشعبوية التاريخية التي مورست في الكثير من دول ومجتمعات العالم.

السياق الأوروبي يتعرّض لتحوّلات مجتمعية جذرية

والسؤال هل يمكن اعتبار تلك القوى امتدادًا للشعبوية التاريخية بتجلّياتها المختلفة؟ وظنّي أن الإجابة على هكذا سؤال مهمة للغاية لأنها تحرّر التحليل العربي من النمطية التي تعكس جمودًا تحليليًا للظواهر التي تتصوّرها ساكنة من جانب. كما تفتح آفاقًا لتجاوز اجترار التحليلات حول واقع دائم التجدّد، أو بحسب ما كتب عالم الاجتماع السياسي، برتران بادي (75 عامًا)، عدم الوقوع في خيالات "سراب العود الأبدي على البدء" التي تغطّي وتتجاهل وتتعامَى أو تتغافل - لسببٍ أو لآخر - عما حلّ بالواقع من مستجدات، ما يؤدّي إلى تحليلات غير صحيحة أو مضلّلة او متكررة.

في هذا الإطار، اجتهد البعض لفهم الشعبوية الجديدة أو المتجدّدة انطلاقًا من أنّ السياق الأوروبي الذي ألِفناه يتعرّض لتحوّلات مجتمعية جذرية.

بدايةً، تؤكّد دراسات كثيرة على أنّ الشعبوية - الأوروبية - الرّاهنة تختلف عن:

أولًا: "الشعبوية التاريخية"؛ مثل شعبويّتَي "بيرون" و"ناصر" اللتيْن عرفتا طريقهما إلى الأرجنتين ومصر بعد الحرب العالمية الثانية فيما عُرف بمرحلة الاستقلال الوطني. أو ما يمكن تسميته: "شعبوية الزعيم".

ثانيًا: "الشعبوية الحركية" التي انتفضت في أوروبا مع بدء الهبوط التدريجي لـ"جاذبية الاتحاد السوفياتي"؛ وهو ما تجلّى بدايةً في مواجهة الشمولية الحزبية إبّان "ربيع براغ" (1968)، ووصل مداه بتفكيك المنظومة من خلال هدم سور برلين (1989) وإسقاط الرئيس الروماني نيكولاي تشاوتشيسكو (1989)... إلخ.

ثالثًا: "الشعبوية الحزبية" التي عرفتها أوروبا الشمالية منذ الخمسينيّات: السويد (حزب الرايخ الشمالي في 1956)، وفنلندا (الحزب الريفي الفنلندي ــ 1970)، والدنمارك (حزب التقدم ـ 1972)، والنروج (حزب أندرس لانج ــ 1973)، وأوروبا الغربية: فرنسا (حزب الجبهة الوطنية الفرنسية ــ 1972).

إذن، أين يكمن الاختلاف؟...

يكمن الاختلاف في السياق المجتمعي الذي تولد فيه الحركة الشعبوية. فإذا ما استعدنا السياقات التي وُلدت فيها الشعبويات التاريخية سوف نجد ما يلي:

أولًا: تشكلت الشعبوية "الزعمائية" بفعل توفر زعيم يسعى للاستقلال السياسي والاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية.

ثانيًا: أمّا "الشعبوية الحركية" فقد انطلقت لتواجه الشمولية السياسية للحزب الواحد.

ثالثًا وأخيرًا: تبلْورت "الشعبوية الحزبية" في إطار استدعاء للهوية القومية والإثنية بأبعادها المتعدّدة.

تلاقٍ "كتلوي" يميني ويساري تقاطعت فيه الطبقات والأجيال والجهويات والإثنيات والحركات المطلبية والاحتجاجية

فماذا عن الشعبوية الأوروبية الراهنة؟    

تبلورت الشعبوية الراهنة في سياق إشكالية مُركّبة تتكوّن عناصرها من:

أولًا: أزمة اقتصادية عالمية كارثية انعكست ظلالها على الواقع الأوروبي بدرجات متفاوتة من دولة إلى دولة كان لها أعظم التأثير في دولة الرفاهة الأوروبية بتطبيقاتها: الليبيرالية، والديموقراطية الاجتماعية، والكوربوراتية، والإعانيّة، ما أدّى إلى تعرّض الطبقة الوسطى وما دونها إلى الكثير من الصعوبات المعيشية بخاصة في أوروبا المتوسطية والجنوبية. كذلك، تفاقُم اللّامساواة بين القلّة الثريّة والأغلبية من المواطنين.

ثانيًا: عدم تجديد العملية الديموقراطية مؤسّسيًّا وسياسيًّا وضعف القدرة على استيعاب "شباب الألفية الجديدة" في الأحزاب القائمة.

ثالثًا: تعثّر المؤسّسات الدفاعية كالنقابات والاتحادات العمالية والروابط في ممارسة دورها في الدفاع عن الطبقات والشرائح المختلفة ما سبّب فقدان ثقة في مصداقية تلك الكيانات.

رابعًا: حدوث تحوّلات جدّية في الجسم الطبقي في الكثير من المجتمعات الأوروبية (لعلّ دراسة الاقتصاد البريطاني تعكس كيفية/مدى هذه التحوّلات).

خامسًا: التغيّرات الديموغرافية الواسعة التي لحقت بدول أوروبا.

ساهم كلّ ما سبق في استنفار طبقات وشرائح مجتمعية مختلفة لتنتظم معًا فيما يشبه "الحراك التاريخي"؛ وقوده ما عُرف في الأدبيّات "بالغضب التاريخي Historical Anger"، ومن ثم اعتبره البعض "حراكًا" يقترب من الزلزال على قواعد العملية السياسية المضادّة لنُخب ومؤسّسات وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الدينامية المُحرّكة للانتخابات الأوروبية تشكلت من أسفل ومن خارج المنظومة التقليدية

لم يكن الانتظام الحركي المواطِني القاعدي يمينيًّا فقط، بل ويساريًّا أيضًا. وذلك من خلال تشكيلات حزبية جديدة يمينية مثل: الحرية الهولندي، وإلى الأمام الفرنسي، والبديل من أجل ألمانيا. ويسارية مثل: الفنلنديون الحقيقيون، وتحالف اليسار الجديد الألماني، وجيل في محنة البرتغالي. ووسطيّة مثل: الشعب الدنماركي. إضافة إلى الحركات الجماهيرية مثل: بوديموس الإسبانية، والـ5 نجوم الإيطالية، والواقفون ليلا الفرنسية، وسيريزا اليونانية. واتّسم الحراك المواطِني القاعدي الجديد بتلاقٍ "كتلوي" (يميني ويساري) تقاطعت فيه الطبقات والأجيال والجهويات والإثنيات والحركات المطلبية والاحتجاجية. تحرّكت الجماهير في إطار كتل مجتمعية "Society Masses"؛ بحسب أحد الباحثين. وهي معركة نضالية أكثر تعقيدًا من الصراع الاجتماعي في صورته الأولية المباشرة. لأنها تحمل صراعات مُرَكّبة ومُتداخلة بين الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والاجتماعي.

في هذا السياق، لا بدّ من التعمق في الدينامية المُحرّكة للانتخابات الأوروبية وأطرافها الفاعلة الجديدة والعناصر المُكوّنة، نظرًا لأنها تشكلت من أسفل ومن خارج المنظومة التقليدية. ولعلّ القراءة المتأنّية للانتخابات الفرنسية والألمانية الأخيرة تؤكّد لنا إذا ما تجاوزنا النتائج الكمّية، أنّنا أمام صعودٍ ليمين مغاير لليمين التاريخي، وأنّ تركيزنا ينصبّ على اليمين ونعته بالقومية المتشدّدة على الرَّغم من أنه يستوعب ما هو أكثر من ذلك طبقيًّا وجيليًّا وإثنيًّا وجهويًا. كما أنّ هناك صعودًا ليسار جديد مغاير لليسار الأوروبي التاريخي يضم تحالفًا عريضًا من الاحتجاجيين والبيئويين/المناخيين والمطلبيين. ويعتمد كلاهما، اليمين واليسار، حراكًا قاعديًّا "كتلويًّا" مواطِنيًا. وهي ظاهرة باتت تجد لها صدى خارج السياق الأوروبي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن