إجتازت سوريا ما كان يُخطط لها من مكائد ومؤمرات، إلا أن الخطر ما زال قائماً حيث أبرزت الاشتباكات الدموية الأخيرة في الساحل السوري معطيات تحتاج إلى الكثير من التعمّق والتحليل وايضاً إلى معالجة مسبباتها كما تداعياتها سعياً وراء ارساء دعائم الدولة القوية الحاضنة لجميع أطياف الشعب السوري. فالوقائع، على خطورتها، تشير إلى ان الجراح التي خلّفها النظام السابق لم تندمل بعد، بل إنها ستبقى تثير النعرات الطائفية والمذهبية التي تمت تغذيتها طوال سنوات حكم الأقلية العلوية للبلاد، كما ان مظاهر العنف، التي أظهرتها بعض الفيديوهات المنتشرة، أثارت المخاوف الداخلية والخارجية، حيث سارعت العديد من الدول، وعلى رأسها واشنطن، لرفع ورقة حماية الأقليات ودعوة دمشق للمحاسبة.
فعلى عكس موقفها الصامت تجاه الإدارة السورية الجديدة، والذي لم يقترن بأي خطوات أو افعال لجهة رفع العقوبات التي ترخي بظلالها وتؤثر على استقرار البلاد ونهضتها، التزمت الولايات المتحدة الصمت المطبق تجاه تطورات الأوضاع في سوريا ولكنها خرجت عن ذلك بعيد الأحداث لتطالب بمعاقبة الجناة بأحداث الساحل السوري وسوقهم للعدالة. ورغم الانفتاح العربي و"تفهم" بعض الدول الأوروبية للمستجدات السورية، بقيت واشنطن دون أي موقف واضح وهو ما يربطه الرئيس السوري أحمد الشرع بعدم أولوية هذا الملف حالياً بالنسبة للولايات المتحدة. واعتبر الشرع، في حوار مع وكالة "رويترز"، أن الأحداث الأخيرة هدفت إلى تقويض جهوده وعرقلة مساعيه للّم الشمل، متهماً "جماعات موالية لنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، يدعمها أجانب، مسؤولية إشعال الأحداث الدامية التي جرت في منطقة الساحل"، لكنه أقر ايضاً بأن "أعمال قتل انتقامية وقعت في أعقاب ذلك"، مجدداً التأكيد على محاسبة المسؤولين عنها، حتى لو كانوا "أقرب الناس" إليه.
ووسط حالة التوتر والمخاوف التي ظهرت في الأيام الأخيرة، برزت بارقة أمل يمكن أن تُسهم في نتائج "إيجابية" لجهة بسط الدولة سيطرتها وسلطتها على معظم أراضيها وارسال إشارات طمأنة إلى الخارج، إذ أعلنت الرئاسة السورية عن التوصل لاتفاق مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). فوفق الاتفاق المُوقع، "سيتم دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز". وقد أشار قائد "قسد" مظلوم عبدي إلى أن "هذا الاتفاق يُعتبر فرصة حقيقية لبناء سوريا جديدة تحتضن جميع مكوّناتها وتضمن حسن الجوار".
وجاء هذا الإعلان الذي يفترض تطبيقه بحلول نهاية العام، في وقت شهدت البلاد أعمال عنف دموية أدت إلى إثارة المخاوف من بثّ الفتنة والتفرقة بين أبناء الشعب السوري وسط تحذيرات من تكرار النموذج الليبي ودخول البلاد في أتون اقتتال أهلي تستفيد منه بعض الجهات الخارجية ذات المصالح في الداخل السوري، والتي تأثرت بعد سقوط النظام السابق، ناهيك عن بعض المجموعات الداخلية الداعمة للحملات المُمنهجة ضد الإدارة السورية الجديدة.
كما يبرز الدور الاسرائيلي الذي دخل على خط التوترات الأخيرة بهدف زعزعة استقرار سوريا سواء عبر تكرار مواقفه السابقة لجهة توفير الحماية اللازمة للأقليات، وهو الذي يرفع شعار الذود عنها وتأليبها ضد نظام الحكم الجديد في محاولة لاشعال المواجهات بين الطوائف المختلفة، أو من خلال المواقف الأخيرة الصادرة حيث انتقد وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الدول الأوروبية، معتبراً أنها يجب "ألا تمنح الشرعية للنظام في دمشق دون مقابل، خاصة بعد ارتكابه مجازر بحق شعبه". وتدأب تل أبيب منذ سقوط الاسد إلى زيادة انتهاكاتها وخروقاتها العسكرية سعياً وراء إبقاء سوريا في حالة من الضعف والتفكك. وفي أخر المستجدات، شنّت الطائرات الاسرائيلية، موجة من الغارات الجوية العنيفة استهدفت ثكنات ومواقع عسكرية سابقة للجيش السوري في محيط محافظة درعا، جنوب البلاد، كما في القنيطرة وريف دمشق الجنوبي الغربي.
فلسطينياً، تبرز المخاوف بشأن العودة إلى الحرب وانهيار الهدنة في قطاع غزة، الذي يعيش تحت حصار مطبق من قبل الاحتلال الاسرائيلي ووقف دخول جميع المساعدات الإنسانية. ويعول الوسطاء و"حماس" على الضغط الأميركي من أجل العودة إلى طاولة التفاوض وفق الاتفاق المبرم سابقاً والذي لا تزال تعرقله تل أبيب طمعاً بتمديد المرحلة الأولى وإطلاق نصف الرهائن المحتجزين لدى الحركة دون تقديم أي ضمانات بعدم العودة للحرب. وكان بارزاً المحادثات التي تمت بين ممثلين عن الإدارة الأميركية و"حماس"، حيث أفادت مصادرها لـ"الشرق الأوسط" بأن قيادات الحركة "هي التي طرحت على المبعوث الأميركي لشؤون الرهائن آدم بوهلر فكرة الاتفاق على هدنة لا تقل عن 5 سنوات وتمتد لأكثر وتصل لـ10 سنوات وربما لأكثر"، مشددة، في السياق نفسه، على انها "لم تلتزم لأي طرف بأنها ستقبل بنزع سلاحها، وتعدّ هذا الأمر شأناً فلسطينياً".
وإذ أبدت الحركة تفاؤلها بإمكانية التوصل لاتفاق، رغم الحاجة "إلى بعض الوقت". كشفت المصادر نفسها عن أن هناك طرحاً يتعلق أيضاً بإمكانية "إجراء تبادل الكل مقابل الكل (بالنسبة للرهائن الاسرائيليين والفلسطينيين)، ووقف الحرب، وانسحاب إسرائيل، وأن الولايات المتحدة قد تقبل بمثل هذا الخيار، رغم مواقفها العلنية المعارضة للكثير من السيناريوهات والأطروحات التي تم وضعها على الطاولة في الآونة الأخيرة". في المقابل، يبرز امتعاض اسرائيلي يصل إلى حد المخاوف من المباحثات الجارية، وعقّب وزير المالية بتسلئيل سموتريتش على هذه التطورات قائلاً: "قلنا لبوهلر إنه يستطيع التفاوض على أشياء ستعطيها الولايات المتحدة، وليس أشياء سنعطيها نحن".
إلى ذلك، تزداد معاناة أهالي غزة مع قرار اسرائيل قطع الكهرباء ما سيحرم مناطق جنوب ووسط القطاع مما لا يقل عن 70٪ من مصادر المياه العذبة. في حين حذرت المقررة الأممية الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، من أن قطع الإمدادات يُنذر بإبادة جماعية. وتتذرع تل أبيب باتخاذ هذه الخطوات للضغط على "حماس"، الا أنها بذلك تضيق الخناق على الفلسطينيين من خلال دفعهم للرحيل وذلك وفق مخطط التهجير الذي تعمل عليه بجهد وتكرس جهوداً مضنية في هذا الإطار. بموازاة ذلك، هدّد الحوثيون بأنهم سيتخذون إجراءات عسكرية بمجرد انتهاء مهلة الأيام الأربعة لرفع الحصار عن قطاع غزة، وفق ما أوردته وكالة "رويترز". وكان زعيم الحوثيين توعد باستئناف العمليات البحرية ضد إسرائيل في حال لم تُنهِ تعليقها دخول المساعدات.
على الصعيد الدولي، وصل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في وقت سابق الاثنين، إلى جدة، في زيارة هي الرابعة للسعودية منذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية في شباط/ فبراير 2022، حيث استقبله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي أكد حرص بلاده ودعمها جميع المساعي والجهود الدولية الرامية لحل الأزمة الأوكرانية والوصول إلى السلام. وبالتوازي وصل وفد أميركي برئاسة وزير الخارجية ماركو روبيو الذي يجري محادثات مع مسؤولين أوكرانيين، استباقاً لزيارة مرتقبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، للمملكة بعد أسابيع.
من جهتها، تستضيف باريس، اليوم، اجتماعاً هاماً سيضم قادة أركان الدول الأوروبية الراغبة في المشاركة في القوة المشتركة المنوي إرسالها إلى أوكرانيا. وسيحضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاجتماع للدلالة على الأولوية التي تمنحها باريس لهذا الملف الذي يشكل اختباراً حقيقاً لدول الاتحاد الأوروبي، التي تبدو في حالة من القلق والريبة من المواقف الاميركية الأخيرة. وقبل الاجتماع، أكد ماكرون أن المقترح تمت مناقشته مع الرئيسين الأميركي والأوكراني، وهو يأتي في سياق "الضمانات الأمنية" التي تطلبها أوكرانيا حتى لا تكون مجدداً هدفاً لروسيا، على حدّ قوله. يُشار إلى أن وكالة "بلومبرغ" أفادت، في وقت سابق، بأن مبعوث الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف قد يتوجه إلى العاصمة الروسية، موسكو، هذا الأسبوع لإجراء لقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين، في إطار مساعي الولايات المتحدة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.
وأرخت مستجدات المشهد السوري بظلالها على جولة الصحف العربية اليوم، التي اهتمت بالحديث عن ظروفها وتأثيراتها على دول الجوار، لاسيما الأردن ولبنان:
فتحت عنوان "سورية..الديموغرافيا ولعنة الجغرافيا"، كتبت صحيفة "عكاظ" السعودية: "إن عودة سورية المفيدة والقوية مسألة وقت، إذا ما تجاوز السوريون أزمة الثقة التي نزعها النظام البائد بين مكونات الشعب السوري"، موضحة "أن هناك فراغاً إقليمياً أحدثه خروج سوريا والعراق من المعادلة الإقليمية، وهو ما يفسر تكالب المنافسة الإقليمية على سورية الأرض وسورية القوة وسورية النفوذ".
وردّت صحيفة "الأهرام" المصرية، في مقال، ما يجري في سوريا من أحداث وتطورات إلى "ما كرسه نظام بشار الأسد، بسيطرة الطائفة العلوية على غيرها من المكونات الطائفية والدينية والعشائرية الأخرى في سوريا، بظل غياب أي سياق يحمل حدا أدنى من الديمقراطية، يسمح بالتفاعل السلمي بينها"، على حدّ قولها.
من جهتها، نبهت صحيفة "اللواء" اللبنانية من أن "أخطر ما يمكن أن تكشفه لجنة التحقيق، التي تم تشكيلها في سوريا، وجود تدخل خارجي مشبوه، لإثارة الفتن الدينية، وإشعال الحروب الداخلية، على نحو ما يجري في ليبيا والسودان من معارك مدمرة للبلدين، وتقضي على البقية الباقية من مقومات الدولتين"، مشددة على أن "لبنان سيكون في طليعة المتضررين من كابوس إشتعال نيران الفتن في سوريا، فضلاً عن مخاطر أن تكون مقدمة لإعادة تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية وعنصرية".
ورأت صحيفة "الدستور" الأردنية أن "جولة جديدة من هدر الدم العربي السوري البريء، حدثت، وما زالت تلقي بظلالها السوداء على مستقبل سوريا ومستقبل المنطقة كلها". وأضافت "نار سوريا؛ التي تشتعل منذ عام 2011، لم تنطفىء، وإن لم تجد من يطفئها، ستضطرم أكثر، وتنتشر إلى خارجها، وهنا تقفز اولوية أردنية، تتعلق بحماية أنفسنا وبلادنا من هذه المحرقة الجديدة".
هذا وأشارت صحيفة "الراية" القطرية إلى أهمية الاتفاق الذي وقع بين الإدارة السورية الجديدة و"قسد"، معتبرة أنه "سوف يسرّع ببسط الأمن والاستقرار ومعالجة كل جذور التوتر لتظل سوريا المظلة الجامعة لكل السوريين، من شتى المشارب والأصول". وقالت: "والآن وبعد هذا الاتفاق، بقي دورُ المجتمع الدولي المُطالَب بدعم التحولات الديمقراطية في سوريا عبر رفع العقوبات وكذلك منع التدخلات الخارجية الراغبة في إعادة سوريا لعهد الاستبداد وحُكم الفرد".
أما صحيفة "عُمان" العمانية، فتطرقت إلى الأوضاع الفلسطينية حيث أوضحت أن "إسرائيل التي عارضت الاتصالات الأمريكية مع "حماس" ستسعى إلى اختلاق المشكلات في قطاع غزة ومحاولة خلط الأوراق مرة أخرى والتلويح بالعودة إلى الحرب والضغط على الحركة"، لكنها أملت مواصلة "التضامن العربي الذي أظهرته القمة الاستثنائية ولا يتم تخريبه بشكل أو بآخر أو محاولة تعطيله بشكل ما؛ لأن النتائج لن تكون إيجابية إذا ظهرت الخلافات بين الأشقاء وأسباب ظهورها عديدة وجاهزة على أكثر من صعيد".
(رصد "عروبة 22")