وبعد... فنحن نعرف أنّ الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، إلى جهله التليد، فاشيّ من نوع بائس جدًّا وبذيء تمامًا، على ما تشي به تصريحاته وتصرّفاته وسياساته الهوجاء بالغة التهوّر، تلك التي يتذوّق العالم كلّه الآن طعم مرارتها وتكابد شعوب الدنيا (بمن فيهم الشعب الأميركي نفسه) الكثير من المعاناة النّاجمة عن سياسات تلامِس حدود الجنون في فاشيّتها إذ تُحاكي نهج سمسارٍ يسعى لجني الربح بكلّ وسيلة متجاهلًا كل روادع القانون والأعراف والأخلاق معًا.
طبعًا أمّتُنا العربية وفلسطين بالذات، هي في طليعة الأمم والشعوب التي أصابتها الأضرار جرّاء السياسات الفاشية الترامبية، لا سيما أنّ ترامب وإدارته ذهبا بعيدًا جدًّا في التماهي مع عصابات أقصى اليمين الصهيوني المفرِطة في عنصريّتها ووحشيّتها.
المشروع الصهيوني لن يتوقّف خطره عند حدود فلسطين بما يهدّد أقطارًا عربية عديدة وبعيدة حتّى عن دول الطوْق
ومع ذلك، هناك مؤشرات جدّية على أنّ للفاشية الترامبية، على الرَّغم من قبحها، بضع فوائد للعرب ربما أهمّها وأثمنها، أنّها بدّدت وَهْمًا خطيرًا جرى الترويج له على مدى سنين وحقب طويلة، وأقصد هنا وهْم إمكانيّة التعايش بسلام مع الكيان الصهيوني العنصري الذي سرق فلسطين. لقد رأينا بأمّ أعيننا أنّ الشعارات التي تتغذّى من هذا الوهْم كيف راحت تتغلغل تدريجيًّا في السياسات والتوجّهات المعلنة للعديد من نُظُم الحُكم العربية التي اعتبرت أنّ اقطارها بمنأى عن العربدات الصهيونية التوسّعية، ومن ثمّ فبإمكانها الإقدام على تطبيع العلاقات مع هذا الكيان المتوحش، كما أنّ الشعارات المذكورة لوَّنت تمامًا لغة خطاب النّظام الرسمي العربي كله في ما خصّ الصراع العربي - الصهيوني، الذي تحوّل بقوة الوهم إلى مجرّد "نزاع فلسطيني - إسرائيلي!!".
أكثر من ذلك، تابعنا بالكثير من الدهشة الشعارات البائسة ذاتها وهي تتسرّب رويدًا رويدًا إلى وعي وأدمغة جزء مُهم من النّخب الوطنية العربية التي راحت ألسنتهم تلوكها وتردّدها كالببغاوات بخفةٍ تثير الحزن أكثر مما تثير الاستياء.
غير أنّ ترامب جاء الآن وتربّع على سدّة حكم الإمبراطورية الإمبريالية الأميركية وأظهر دعمًا لدرجة التماهي مع أشدّ العصابات الصهيونية تطرّفًا وعنصريةً ووحشية، وتحت غطاء هذا الدعم المتفلّت من كل قيْد قانوني أو أخلاقي، اندفعت عصابة الحُكم الإسرائيلية للتعبير الفجّ الصريح (والغبي كذلك) عن حقيقة أهداف المشروع الصهيوني تلك التي كانت واضحة منذ البداية (أي قبل ثورة الوهْم) وأنّه ليس مجرّد مشروع عنصري فحسب، وإنّما هو أيضًا مشروع توسعي وعدواني لن يتوقّف خطره عند حدود فلسطين المسروقة وإنّما هذا الخطر قابِل وجاهِز للتمدّد خارج فلسطين (وقد تمدّد في الماضي فعلًا) بما يهدّد أقطارًا عربية عديدة وبعيدة حتّى عن دول الطوْق، وهو ما سمعناه واضحًا جليًّا في تصريحات إجرامية مجنونة تفوّه بها كبار المسؤولين الصهاينة مؤخّرًا وأتت مشفوعة بعربدات عدوانية واسعة طالت عسكريًا حتى الآن سوريا ولبنان، وسياسيًّا وأمنيًّا هدّدت بجدّية كلّ من مِصر والأردن، والمفارقة هنا أنّ كلا القُطرين مرتبط بمعاهدات سلام وتطبيع مع الكيان الصهيوني، لكن ذلك لم يشفع لهما ولم يعصمهما من خطر أن تكون أراضي كلّ منهما ملاذًا ومستقرًّا أبديًّا للفلسطينيين، سكان قطاع غزّة، حسب الخطة الترامبية الخرافية التي تقضي بتهجيرهم و"تطهير" أرض القطاع منهم تمامًا كي لا يكونوا عائقًا بشريًا أمام تمدّد الكيان ومانعًا يحول بينه وبين تنفيذ خططه لإكمال اغتصاب ما تبقى من أرض فلسطين... بل إنّ هذا النوع الأخير من العربدة لم يوفّر حتّى أقطارًا عربية أخرى تبدو بعيدة تمامًا عما يداهم دول الطوْق من مخاطر، مثل المملكة العربية السعودية!!.
في عودة وعيِنا بطبيعة العدو واستحالة التعايش السلمي معه فائدة مؤكّدة لنا
إذن، ترامب بفاشيته وجهله ودعمه غير المحدود للكيان الصهيوني في أشدّ أطواره إجرامًا وعنصريةً وعدوانيةً، أسهم إسهامًا قويًّا وحاسمًا في تبديد ذلك الوهْم الذي أمسك بتلابيب أغلب حكام الأمّة ردحًا طويلًا من الزمن، وأظهر بجلاء تلك الحقيقة الناصعة التي كانت "غائبة" أو "مغيّبة"، عن طبيعة العدو ومدى خطره ومن ثمّ استحالة التعايش السلمي معه... أليس في عودة وعيِنا كعرب بهذه الحقيقة فائدة مؤكّدة لنا، ولو كانت مجرّد أثرٍ جانبيّ للفاشية؟!.
(خاص "عروبة 22")