القول إنّ النظام الساقط في سوريا ارتكب جرائم أبشع، لا يُبرّر مجرّد الاعتداء على نَفْسٍ بريئة واحدة، فسوريا ليست في مباراة بين مَن الأبشع والأكثر جرمًا. لأنّ المواجهة المشروعة لجرائم فلول الأسد يجب ألا تنتقل بأي حال إلى استهداف طائفة أو مدني في الساحل وغيره، وإذا قُدِّرَ لسوريا أن تبني دولة مدنية أو حتى نصف مدنية مثل أغلب جيرانها العرب، فإنّها بحاجة إلى أن تتوافق على منظومة سياسية يشارك فيها الجميع وتنطلق من أنّ قتل روح واحدة بغير حق جريمة لا تُغتفر.
الاعتراف بالخطأ والسيْر في اتجاه المحاسبة يعني أنّ النظام الجديد اتخذ مسارًا لم تعرفه سوريا من قبل
مع ذلك، فإنه على الرَّغم من صعوبة المرحلة الانتقالية في سوريا مثل كل تجارب التغيير في العالم، إلّا أنّ تعاطي النظام الجديد مع ما جرى في الساحل كان مختلفًا تمامًا عن تعاطي النظام الساقط مع كل الأحداث والجرائم التي عرفتها البلاد منذ انطلاق الثورة السورية منذ 14 عامًا وحتى هروب الأسد، فقد أقرَّ أحمد الشّرع بأنّ هناك انتهاكات حدثت وأعلن أنّ المحاسبة ستطال "أقرب الناس إلينا"، وجرى تشكيل لجنة محايدة لتقصّي الحقائق ذات طابع قانوني ومهني، أبدت استعدادها للتواصل مع نظيرتها الأممية، وأخرى للحفاظ على السلم الأهلي، وضمّت أحد رموز الطائفة العلوية الذي انشق في 2019 عن نظام الأسد.
الاعتراف بالخطأ والسيْر في اتجاه المحاسبة لا يعني بالضرورة حلّ المشكلة لكنّه يعني أنّ النظام الجديد على الرَّغم من التحديات الكثيرة التي تواجهه اتخذ مسارًا لم تعرفه سوريا من قبل وهو الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه ثم محاولة تصحيحه ومحاسبة المسؤولين عنه بصرف النظر عن نجاحِه في ذلك أم لا، وبصرف النظر أيضًا عن أنّ بنيته الحالية ستسمح له بأن يتجه نحو المزيد من الإصلاحات والمحاسبة والشفافية وإعمال القانون أم لا؟ إنّما في النهاية قدّم محاولة لم تعرفْها سوريا من قبل وهي الاعتراف بالخطأ والسّير في الخطوة الأولى نحو إصلاحه.
فرص الإصلاح الضائعة واحدة من سمات كثير من النُظم العربية
علينا ألّا ننسى أنّه عقب اندلاع الثورة السورية، اعتُقل الطفل حمزة الخطيب (13 عامًا) ابن محافظة درعا وتعرّض لتعذيب مشين وقتل، وفي البداية تظاهر أهالي منطقته من أجل فقط محاسبة من قتلوه فتعامَل النظام بصلف وقمع مع المحتجين العزّل حتّى دفعهم إلى الانتقال من المطالبة بمحاسبة القتلة إلى المطالبة بسقوط النظام، ثم دفعت المذابح التي ارتُكبت بحقّ المتظاهرين السلميّين الكثير منهم إلى حمل السلاح، وظهر الجيش الحرّ وجبهة النصرة ثم هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل المسلحة التي واجهت النظام حتى أسقطته في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي.
فرصة الإصلاح من داخل النظام جاءت في 2014 حين انتقلت الثورة السورية من مرحلة الاحتجاج السلمي إلى حمل السلاح ودخل "داعش" وعدد من تنظيمات التطرّف والإرهاب على الخط، وارتُكبت جرائم وانتهاكات من الجميع وإنْ كانت جرائم النظام فاقت الكلّ، وطُرِحَ وقتها بديل من "بيت الشرع" وهو فاروق الشرع وزير خارجية سوريا الأسبق والسياسي المخضرم، وكان يمكن أن يكون حلًّا ينقذ الدولة السورية من الانهيار الذي شهدته بعد ذلك على يد بشار الأسد ويحقن دماء مئات الآلاف من السوريين، ولكنّ النّظام رفضه كبديل آمن من داخله، ووضع الشّرع تحت الإقامة الجبرية واستمرّ في جرائمه حتّى جاءت النهاية المحتومة.
النظام السوري السّاقط لم يعترف بأي خطأ ولم يقبل بأي محاسبة واعتمد سياسة القتل والتعذيب للجميع
فرص الإصلاح الضائعة واحدة من سمات كثير من النُظم العربية، فمن قال إنّ صدام حسين لم يكن أمامه فرصة ليراجع خطيئته الكبرى بغزو الكويت ويتنحّى بعدها ويترك السلطة "لنصف إصلاحي" من داخل نظامه فيفكّ الحصار عن العراق وربما يجنّب البلاد الغزو الأميركي، ومن قال إنّ القذافي الذي بقي 42 عامًا في السلطة لم يكن أمامه فرصة للإصلاح والابتعاد عن الحكْم، ومبارك نفسُه الذي يمكن القول إنّه من القلائل الذين استجابوا لجانب كبير من مطالب المحتجّين في ثورة يناير/كانون الثاني، ولكنّها كانت استجابة متأخرة في الوقت الضائع.
ستظلّ تجربة النظام السوري السّاقط هي الأبشع في تاريخ النُظم العربية، وهو النظام الذي أغلق جميع فرص الإصلاح ولم يعترف بأي خطأ ولم يقبل بأي محاسبة واعتمد سياسة القتل والتعذيب للجميع، ولذا بدَت الخطوة الأولى التي اتخذها النظام الجديد غير موجودة في السياق السوري وغير متكرّرة في السياق العربي، ومع ذلك تظل خطوة أولى في الاتجاه الصحيح تحتاج لعشراتٍ مثلها حتى تتعافى سوريا ويُعاد بناؤها على أُسُس جديدة.
(خاص "عروبة 22")