لم يعُد كلام إسرائيل مواربًا، بل بات مباشِرًا لأبعد الحدود. فلننظر إلى وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس يقول من جبل الشيخ: "عندما يفتح الجولاني عينيه في القصر الرئاسي في دمشق كل صباح، سيرى أنّ الجيش الإسرائيلي يراقبه من قمّة جبل الشيخ". استهداف سوريا وتقويضها بغضّ النظر عن نظامها، هدف استراتيجي إسرائيلي، وذلك باعتبار أنّ من يسيطر على سوريا، بات جزءًا من مركّبات المشهد الدولي. وليس تفصيلًا إعلان بنيامين نتنياهو أن "توقيت عملية الـ"بيجرز" في لبنان... أدّى في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام الأسد!".
كلام نتنياهو وكاتس تزامن مع سلسلة غارات إسرائيلية على عديد المواقع للجيش السوري السابق، وأضيف إليها مواقع مستحدثة للجيش السوري الجديد في جنوبي سوريا المحظور إسرائيليًّا تواجده أو تموْضعه في درعا والقنيطرة والسويداء لضرورات الأمن القومي الاسرائيلي!.
هناك من يكيد لسوريا بهدف تفكيكها وتفتيتها لكي تتّسق مع خرائط الشرق الأوسط الجديد
ضمن هذه الصورة السُريالية، انطلقت أحداث الساحل السوري الدامية والمخيفة، خصوصًا أنّ ردّة فعل الحكومة على كمين "مسلّحي الساحل" الذي استهدف دورية من الأمن العام، كان خطيرًا لأنه اتخذ أبعادًا طائفية ومذهبية عمّمتها فيديوات التباهي التي صوّرها ونشرها عناصر "هيئة تحرير الشام" والفصائل الرديفة، وهم يمثّلون بجثث القتلى من العلويين. ويبدو أنّ هناك من أقنع أحمد الشّرع بـ"تأديب" مدن وأرياف الساحل السوري لمرّة واحدة وأخيرة. وقد بيّنت الفيديوات إلّا لمن ينكرها ويريد التعمية عليها، أنّ ما جرى في جبلة والقرداحة وبانياس وطرطوس واللاذقية كانت عملية تطهير وإبادة جماعيّة على أساس طائفي ومذهبي. والأخطر من هذا أنّها كادت تتحوّل لصاعق تفجير حقيقي لكل سوريا.
تُرى أَوَلَمْ يستقي حكّام سوريا الجدد الدرس ممّا جرى في البلدان التي مرّت بحكومات انتقالية، مثل العراق وليبيا، وأنّ سوريا لن تكون استثناء من حمام الدمّ، لا سيّما أنّ الحكام الجدد وصلوا الى السلطة من خنادق القتال، أي أنّ حزب الغالبين، عليه أن يستوعب المغلوبين، لا أن يجاهد فيهم كما صدحوا على منابر المساجد "حيّ على الجهاد".
قاعدة "حميميم" الروسية في اللاذقية، تحوّلت ملاذًا للهاربين من لهيب النار والرصاص والقتل، وأعلنوا مطالبهم بالحصول على الحماية الروسية، لأنهم يخشون ولا يثقون بحكومة أحمد الشّرع وقواته.
ربما فاق أعداد المدنيين القتلى التوقّعات، ويُرجّح أنّ القيادة السورية فوجئت باحتماء أهالي الساحل بقاعدة حميميم. ما يعني أنّ حكومة الشّرع فشلت في ان تكون ممثلة وحامية لكلّ السوريين. والأهمّ أنّ هذا الاحتماء بحميميم منح القاعدة الروسية شرعية شعبية، ولم تعد بقدر معيّن بحاجة لمراعاة حكومة ينظر مجلس الأمن الدولي في سلوكها. أَوَلَمْ يتنبهوا إلى أنّ هناك من يكيد لسوريا بهدف تفكيكها وتفتيتها لكي تتّسق مع خرائط الشرق الأوسط الجديد؟!
ما جرى في الساحل قَرَع أجراس الإنذار من فتنة تنطلق جنوبًا باتجاه عكّار وطرابلس وشمالًا باتجاه هاتاي ولواء اسكندرون
بعد إعلان حكومة الشّرع انتهاء العمليات العسكرية في الساحل السوري، تطايرت العواجل عن توقيع الشرع اتفاقًا مع مظلوم عبدي قائد "قوات سوريا الديموقرطية". مع أنّ الاتفاق كان يُعدّ له منذ شهرين تقريبًا، إلّا أنّ توقيت إعلانه ساهم في تحويل الاهتمام والكاميرا باتجاه الاحتفالات الشعبية الصاخبة بهذا الاتفاق التاريخي الذي بات واضحًا أنه تمّ برعاية ومواكبة أميركية لصيقة. ما يعني أنّ الاتفاق ليس نتاج حوار سوري - سوري، بل نتاج ضغوط أميركية على الطرفيْن، إنّها الضغوط التي ستنعكس أيضًا في بنود الإعلان الدستوري الوشيك، كما ستتحوّل في اللحظة الأميركية المناسِبة لصواعق تفجير.
أمّا في المشهد الدرزي، فقد بيّنت الوقائع أنّه ومنذ أحداث جرمانا، وفيتو الحماية الإسرائيلي الذي رفعه وزير الدفاع الاسرائيلي ضد قوات أحمد الشّرع، فعّل وجهاء الطائفة الدرزية على الرَّغم من انقسام تياراتهم، فعّلوا تواصلهم مع حكومة دمشق، واتفقوا على تشكيل جهاز أمني من أبناء جبل العرب يتبع وزارة الداخلية، وتشكيل لواء عسكري أيضًا ويتبع وزارة الدفاع، ثم أعاد أبناء السويداء رفع العلم السوري على سارية المحافظة بعد إنزال العلم الدرزي عنها، وبعدما أنزلوا أيضًا العلم الإسرائيلي.
وفيما نُشرت "وثيقة" عن اجتماع حضره الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين الشيخ حكمت الهجري ومحافظ السويداء، وتضمّنت الوثيقة بنودًا مثل تفعيل الضابطة العدلية ومعالجة ملفّ المنشقين والمصروفين من الوظائف وصرف الرواتب وغيرها، فقد سُجل موقف للشيخ حكمت الهجري أكد فيه أن "حكومة دمشق حكومة متطرّفة، ومطلوبة للعدالة الدولية، وسنعمل مصلحتنا كطائفة".
وبدت حكومة الشّرع في اتفاقها مع "قسد"، وتفاهمها جزئيًّا مع الدروز وانخراط الطرفيْن في الدولة الجديدة، كمن يفكّ صواعق التفجير ربطًا بأحداث الساحل السوري التي لم تثبت وقائعها وجود تدخل خارجي، بل إن سوريين كُثرًا يعتبرون انفجار الوضع في الساحل، نتيجةً حتميّة للضغط الكبير الذي يتعرض له أبناء ومدن الساحل منذ سقوط النظام، ونتيجة الضغط هي الانفجار.
ما كان لاتفاق الشّرع مع "قسد" أن يتم لولا إدراك تركيا لمخاطر اللحظة الاستراتيجية
ما جرى في الساحل، والكلام عن إبادة العلويين، قَرَع أجراس الإنذار، من فتنة مذهبية تنطلق من الساحل السوري جنوبًا باتجاه سهل عكّار ومدينة طرابلس، وشمالًا باتجاه مدينة هاتاي ولواء اسكندرون "السّليب" في تركيا حيث نظموا اعتصامات تضامنية مع إخوانهم في الساحل السوري.
ليس الأكراد وحدهم من يؤرّق تركيا، أيضًا تعرّض العلويين ربّما يفرض على تركيا بوصفها راعي النظام السوري الجديد، مقاربات جديدة او معدّلة لوضع سوريا محليًا وإقليميًّا، وما كان لاتفاق الشّرع مع "قسد" أن يتم تركيًّا، لولا إدراك تركيا لمخاطر اللحظة الاستراتيجية، ما يفرض عليها أقلّه التوازن الندّي مع إسرائيل، وعدم السماح لها بتحويل سوريا إلى دولة منزوعة السلاح، كما يقول نتنياهو بحقدٍ أعمى.
(خاص "عروبة 22")