بصمات

عندما يتفوّق الروائي العربي في أسئلة "الاستشراف"!

الاستشراف أو المستقبليات علمٌ قائمٌ بذاتِه، وهناك عدّة مؤسّسات أو مراكز بحثيّة متخصّصة في هذا الحقل العلمي، بعضها يُصدر مجلاتٍ متخصّصة فيه، من قبيل مجلّة "استشراف" أو "فوتو ريبل" الفرنسية، والتي يُحسب لها أنّها كانت تنشر بين الفيْنة والأخرى لأسماء عربية، لعلّ أشهرها الراحل المهدي المنجرة، المتخصّص في هذا الحقل بالذات. أمّا في الوطن العربي، فإنّنا نعاين صدور بعض المجلات خلال السّنوات الأخيرة، في بعض الخليج العربي تحديدًا، وإنْ كانت أغلب الأسماء البحثيّة من المشرق أو المغرب العربي.

عندما يتفوّق الروائي العربي في أسئلة

لنترك الحقل البحثي المعني بالاشتغال في هذا الحقل، حتى نُعرّج على حقل الأعمال الإبداعية، وبخاصّة الأعمال الروائية التي يمكن إدراج بعضها في هذا الحقل، للمفارقة الدالّة، وما أكثر الأمثلة في السياق، وفي مقدّمتها على الصعيد العالمي، من فرط ما تُرجم له من جهة، وما توقعه من جهة ثانية، الروائي البريطاني جورج أورويل.

مع رواية "1984" وهي رواية ديستوبيّة نُشرت سنة 1949، نعاين بعض مضامينها الاستشرافية على أرض الواقع الراهن أو المعاصر من خلال ما تفرزه لنا الثورة الرقمية، ومنها معضلة "العبودية الرّقمية"؛ أمّا مع رواية "مزرعة الحيوان"، وتُصنّف روائيًا في المقام الدستوبّي نفسِه، ونُشرت في صيف 1945، فإنّنا نعاين عدّة أحداث جرت هنا في المنطقة مثلًا، تبدو كما لو أنّها نسخة تطبيقية مما جرى في تلك الرواية، ونخصّ بالذكر أحداث 2011، التي توصف بأنها "فوضى خلّاقة" عند البعض، أو "ربيع عربي" عند البعض الآخر. وليس صدفةً أن تختار مجلة "تايم" الأميركية الرواية كواحدة من أفضل مئة رواية بالإنكليزية.

تحوّلات وتطوّرات مجتمعية وثقافية وهوياتية تبدو كأنّها كانت حاضرة في مضامين خماسية "مدن الملح"

من الصّعب الظفر بأسماء عربية روائية من طينة جورج أورويل، في الشقّ الخاص بسؤال الاستشراف، ولا يمكن توجيه اللّوم لأهل الرواية العربية على هذه المقارنة، لاعتبارات عدّة، لعلّ أهمّها أنّ العمل الروائي ليس مطلوبًا منه أن يكون حاملًا لهذا الهمّ، وإنْ كنّا في أمسِّ الحاجة إليه، أخذًا بعيْن الاعتبار الخصاص البحثي الكبير الذي نعاني منه في الوطن العربي. ومن الاعتبارات أيضًا، لجوء العديد من المفكّرين العرب إلى حقل الرواية، من أجل التنفيس أو التحرّر النسبي من إكراهات القول النظري المجرّد، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصْر في الساحة المغربية، عبد الله العروي، عبد الإله بلقزيز، سعيد بنسعيد العلوي، خالد حاجي، وأسماء أخرى، فالأحرى باقي الأسماء في الوطن العربي، وواضحٌ أنّ هذه الأسماء غير معنيّة بالاشتغال النّظري على قضايا الاستشراف، ما دامت متخصّصة في الفكر الإصلاحي بالدرجة الأولى.

لكنّ المشهد ليس بهذه القتامة في الشقّ الروائي العربي الخاصّ بحقل الاستشراف، بل نزعم أن ثمّة استثناءً عربيًّا بارزًا في هذا السياق، وقلّة من انتبه إليه، والحديث عن أعمال الراحل عبد الرحمن منيف، والذي اشتهر بخماسية "مدن الملح"، والرواية كما هو معلوم، تتطرّق للأوضاع المجتمعية في شبه الجزيرة العربية أو دول الخليج العربي، إبّان اكتشاف النفط والتحوّلات المتسارعة التي حلّت بمدن وقرى الجزيرة العربية بسبب هذا المنعطف الطاقي، ونخصّ بالذكر ثلاثة أجزاء من الرواية: الجزء الأول الذي يستعرض فيه منيف التغيّرات القاسية والعاصفة على المستوى المكاني وخصوصًا الإنساني؛ الجزء الثاني الذي نقرأ فيه التسريع من وتيرة التحولات؛ وأخيرًا، الجزء الخامس الذي يخلص فيه صاحب الخماسية إلى أنّ العادات لا تبقى هي نفسها ولا حتى الأمكنة.

والحال أنّ ما نعاينه في المنطقة نفسها اليوم، مع عدّة تحوّلات وتطوّرات مجتمعية وثقافية وهوياتية، تبدو كأنّها كانت حاضرة في مضامين "مدن الملح"، وإن تناولها عبد الرحمن منيف من منظور روائي صرف، لكنّ حِسّ الاستشراف كان جليًّا كما يتضح بعد رحيله، مع أنّه لم يزعم يومًا قط أنّه من أهل الاستشراف، على غرار جورج أورويل.

لنا الحق في الحلم باليوم الذي يعاين فيه المشاهد العربي أعمالًا فنية تترجم ما خطّه عبد الرحمن منيف في تلك الخماسية

يبدو المشهد هنا كما لو أنّ الأفق الاستشرافي لعبد الرحمن منيف، وجاء في صيغة عمل إبداعي، روائي بالتحديد، يتفوّق على الأفق الاستشرافي للأسماء البحثية في الوطن العربي، ونحن ننطلق من فرضية مفادها أنّ المنطقة تعج بالأسماء البحثية المتخصّصة في حقل الاستشراف، لولا أنّ الواقع يُفنّد هذه الفرضية.

بعض أعمال جورج أورويل، انتقلت من مجال الرواية والنشر الورقي إلى مجال السينما، ومنها الأعمال سالفة الذكر أعلاه، ممّا يُخوّل لنا الحق في الحلم باليوم الذي يعاين فيه المشاهد العربي أعمالًا فنية تترجم ما خطّه عبد الرحمن منيف في تلك الخماسية، أخذًا بعين الاعتبار أنّ المنطقة لا تعاني خصاصًا في المحدّدات المادية (حوالي مائة مليون دولار، هي تكلفة إنتاج مسلسل "معاوية" الذي يُبث خلال رمضان الجاري)، ولا بالأحرى في الأسماء الفنية المؤهّلة لذلك.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن