اقتصاد ومال

الصناعة السينمائية والرّأسمال في الوطن العربي

محمد زاوي

المشاركة

فكرة هذا المقال مستوحاة من تحليلٍ للمؤرّخ والمفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصِرة". من وجهة نظر العروي، تطوّر علم التاريخ وتقدّم الاكتشافات الأركيولوجية في الوطن العربي رهينٌ بتقدّم الصناعة وتأسيس بنية عربية للتصنيع. إنّ هذا الشرط الاقتصادي ليس أساسًا لتقدّم وسائل وآليات الكشف عن التاريخ فحسب، وإنّما هو أساسٌ أيضًا لتقدّم الوعي التاريخي ومناهج التأريخ وقراءة الشواهد التاريخية. ينطبق القول نفسُه على الصناعة السينمائية، إذْ لا يمكن الحديث عن سينما متقدّمة في ظلّ مجتمعات تبعية صناعيًّا متأخرة نظريًا، حتى لا نقول "متخلّفة نظريًا" لما لها من حمولة استشراقية استعمارية.

الصناعة السينمائية والرّأسمال في الوطن العربي

هنا يجب أن نتساءل: ما علاقة السينما العربية بالتصنيع؟ ما علاقتها بالرّأسمال وتقدّمه بشكل عام؟ السينما في أصلها نتاج نظام اجتماعي رأسمالي، تعبير فنّي عن قضاياه وتقدّم قواه الإنتاجية.

والحال أنّ هذا النظام في الوطن العربي يعاني من عدّة مشاكل، أبرزها: غياب تعميمه على كافّة القطاعات الاقتصادية وأنشطة الاقتصاد الخاص والعام، تبعيّة الرّأسماليات العربية (وهي رأسماليات طرَفية) للرأسمالية الغربية (وهي رأسمالية مركزية/"المركز والأطراف" بتعبير سمير أمين)، ضعف الاستثمار الرأسمالي في الصناعات الكمالية تبعًا لضعفه في الصناعات الأساسية، سوء التوزيع الاستثماري على مجالات الاستثمار بما فيها مجال الاستثمار الفني، ضعف يد الدولة العربية على الاقتصاد بعد قبولها بإملاءات اتفاق واشنطن المؤرّخ في 1989 (من مبادئه رفع يد الدولة عن الاقتصاد وتحرير التجارة الداخلية والخارجية)، اضطراب العلاقة بين الرأسمال والإيديولوجيا العامة نظرًا لاضطراب الرّأسمال العربي نفسِه.

ازدواجية السينما في الوطن العربي فهي من جهة لا تخلو من مظاهر التحديث لكنها من جهة أخرى تحافظ على التقليد

كلّ مشكل من هذه المشاكل له انعكاس على الصناعة السينمائية العربية، وبيانه كالآتي:

- غياب التعميم الرأسمالي: وهو ما من شأنه أن يُبقي الرأسمال العربي منحسرًا في مجالات بعينها دون مجالات الفنون، أو في عمل فنّي دون آخر، أو في مشهد سينمائي دون آخر، أو في فكرة سنيمائية دون أخرى... إلخ. إنّ غياب التعميم لا يؤثر سلبًا في قوى الإنتاج الفنية فحسب، وإنّما في الفكر الفني نفسه. وهذا جوابٌ لمَن يتساءل عن ازدواجية السينما في الوطن العربي؛ فهي من جهة لا تخلو من مظاهر التحديث، لكنها من جهة أخرى تحافظ على التقليد فكرًا وممارسةً فنيةً. هذه الازدواجية ناتجة عن ازدواجية أخرى في نمط الإنتاج السائد. وهو نمط إنتاج رأسمالي في جانب وما قبل رأسمالي في جوانب أخرى.

- تبعيّة الرأسماليات العربية: وهذه التبعية تتجلّى في السينما أيضًا، ومن أمثلة ذلك: استيراد أعمال سينمائية لترجمتها أو دبلجتها، اقتباس الأفكار والسيناريوات السينمائية، ضعف الإخراج السينمائي، تبعية الإخراج العربي للرؤى الإخراجية الأجنبية، الاعتماد على التمويل الأجنبي عن طريق الجوائز والمنح "الفنية" وغيرها، إنتاج أعمال سينمائية غريبة عن الخصوصية العربية، إلى غير ذلك من التجلّيات التي تعكس في جوهرها تبعيّة الرأسمال العربي للرأسمال الأجنبي، والغربي منه على وجه الخصوص.

- ضعف الاستثمار في الصناعات الأساسية: وهنا نشير إلى اختلاف الحاجيات الإنسانية المحتسَبة في تحديد القيمة (أي القيمة التي يحتاجها العامل لسدّ رمقه الضروري لإنتاج سلعة) من مجتمع إلى آخر. فإذا كانت السينما وحفلات الأوبرا تُعتبر أنشطة ضرورية لإنتاج القيمة في المجتمعات الغربية، فإنّها ليست كذلك في المجتمعات العربية. إنّ السينما لا تدخل في تحديد القيمة العربية، نظرًا لضعف الإقبال عليها، ونظرًا لعدم اعتبارها نشاطًا ضروريًا لأغلب الفئات الاجتماعية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الفئات الاجتماعية المختلفة لا تعرف السينما من خلال قاعات العرض السينمائي، وإنّما تكتفي بما يُعرض على القنوات العمومية أو الفضائية، أو بما توفره الشابكة من أفلام ومواد فنية.

التجارب السينمائية العربية الرائدة كانت جزءًا من مشروع اقتصادي أكبر وربما تراجعت بتراجعه

- سوء التوزيع الاستثماري: وهو من نتائج ارتباك النظام الاجتماعي، ومن نتائج ضعف التخطيط الذي يحدد المجالات التي ينبغي أن يشملها الاستثمار وِفق دراسة موضوعية. وعندما تكون الأعمال السينمائية ضرورية لتوجيه المجتمع أو الحيلولة دون استهدافه الثقافي أجنبيًّا، فإنّ سوء التوزيع قد يحوّل الاستثمار الرأسمالي أو يحصره في مجالات أخرى غير السينما والفن. إنّ ضعف تَحدُّد القيمة بالنشاط السينمائي في الوطن العربي لا يعفي من إنتاج سينمائي مجاني ينافس الإنتاج الأجنبي على الفكر والذوق العربييْن.

- ضعف يد الدولة العربية على اقتصادها: يمكننا في هذا الصدد الرّجوع إلى بعض التجارب السينمائية العربية الرائدة في سوريا أو مصر. فهذه التجارب لم تكن صناعة أفراد، وإنّما كانت بفعل توجيه صادر عن الدولة، يستثمر جزءًا من الرأسمال في الإنتاج السينمائي، كما يوجّه جزءًا من الاستثمار الرأسمالي الخاص للصناعة السينمائية، إضافةً إلى أنّ هذه المشاريع السينمائية قد تزامنت مع مشاريع أخرى للتصنيع وتأميم الصناعات وتوجيه الرأسمال الخاص. لقد كانت جزءًا من مشروع اقتصادي أكبر، وربما تراجعت بتراجعه.

الأعطاب التي يعانيها الرأسمال العربي تنعكس سلبًا على الفكر السينمائي

- اضطراب العلاقة بين الرأسمال والإيديولوجيا: السينما نموذجٌ فنّيٌ حديث، والفكر السينمائي لا ينفصل عن الأصل ذاته، أي الحداثة. الحداثة نفسها ليست أصلًا، إنّما هي نتاج مجتمع حديث، أي مجتمع رأسمالي. إنّ الأعطاب التي يعانيها الرأسمال العربي لا تنعكس سلبًا على الصناعة السينمائية فحسب، بل على الفكر السينمائي (الإيديولوجيا السينمائية) أيضًا. يضطرب الرأسمال فلا يجد منطقُه طريقًا سالكًا ومُعبّدًا إلى الإيديولوجيا السينمائية، وهو ما قصدناه باضطراب العلاقة بين الرأسمال والإيديولوجيا.

أما الذين يتساءلون عن ضعف السينما العربية فنًّا وفكرًا، فعليهم النّظر قبل ذلك إلى المجتمع ونمط إنتاجه. وكلّ نظر غير ذلك لا يفي بغرض التفسير!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن