بصمات

الصّوْم إذ يُلهمنا "لاهوتًا لإنسانيّتنا"

في الشهر الفضيل، رمضان الذي أُنزل فيه القرآن، فُرض الصّيام على المسلمين، ولكن يُجمع الفقهاء على أنّ الصّوم لا يكون مقبولًا إذا اقتصر على الطعام والشراب، ولم يَطَلْ كلّ الجوارح، ليصبح الصائم عفّ اللسان، غضّ البصر، تقيّ القلب، نقيّ الروح، وليس فقط خاوي البطن. هكذا يستطيع الصّوم الصحيح أن يُحرّر أرواحنا من غرائزنا، وأن يشير إلى إمكانيّة أن نحقّق خلاصنا الذاتي بالكفاح الروحي والمثابرة الأخلاقية.

الصّوْم إذ يُلهمنا

إذا كانت شُعيْرة واحدة، قادرة على تحرير الوجود الفردي للمسلم، فالمفترض أنّ الاعتقاد التوحيدي، في ذروته التنزيهيّة، ينطوي على ما يكفي من الطاقة لتحرير وجودنا الجماعي كأمّة/ثقافة من أدران القهر والاستبداد. وهنا يبرز لدينا مفهوم (اللّطف) المعتزلي، نموذجًا لإنسانية علم الكلام، يؤلّف بين الحضور الإلهي في العالم والإرادة الإنسانية في التاريخ، بيْن الأمر الصادر عن الله كتكليف ديني، والسلوك المتولّد عن الإنساني كـإرادة حية مسؤولة عن أفعالها. فالله جعل الإنسان حرًّا لأنّه عاقل، حيث ترتبط الحرية بالاعتقاد في الكفاءة التامّة للعقل البشري، أو ما يسمّيه جان جاك روسو بـ"القابلية للكمال"، شرط أن نفهم الكمال باعتباره القدرة على تحقيق التقدّم الأخلاقي المطّرد في التاريخ، وليس على بلوغ حالة الاكتمال، المرتبطة بالذّات القدسية المتعالية على التاريخ.

لكنّ المفارقة، أنّ رجالًا يرفعون راية الإسلام لم يتورّعوا عن ارتكاب عدّة مذابح بمدن الساحل السوري، راح ضحيتها نحو الألفيْن، بينهم نساء وشيوخ وشباب من كل الأعمار، راجت لهم فيديوات مصوّرة كشفت كيف جرت إهانتهم وامتهان إنسانيتهم بأبشع الطرق الممكنة، مما لا تبرّره أي دوافع طائفية أو عِرقية، أو حتى سياسيّة كالانتماء للنظام السابق.

اللاهوت الإنساني هُزم مرارًا أمام تحالف الفقيه والسلطان

تكشف تلك الأحداث، كأخرى كثيرة سابقة، عن مدى تشبّع الإسلام الحركي، السياسي والجهادي، بلاهوت العنف، وعن حاجة مجتمعاتنا إلى لاهوتٍ نقيض، لاهوتٍ إنساني ينطلق من مركزية الروح البشرية، وأولويتها حتى على الدّين نفسِه. فالله ليس هو الدّين، بل ربّ الدّين، الذي خلق الإنسان، ومنحه الدّين عطيةً روحيةً ترشده إلى طريق الخلافة "الحضارية" على الأرض، حيث التمدّن والتحرّر، وليس الخلافة "السياسية" سواء على الطريقة التقليدية، حيث القهر والقمْع تحت لافتة الدّين، أو على الطريقة "الداعشية" حيث الإنسان محض قربان على مذبح العنف والعبث.

مثل هذا اللاهوت الإنساني، هو الذي هُزم مرارًا في مراحل الأفول الحضاري، أمام تحالف الفقيه والسلطان، عندما صعدت الدول على أسنة المذاهب، وتأسّست المذاهب على رماح الدول، حيث السلطان يرعى الفقيه، والفقيه يبرّر السلطان، وما بينهما سقط العقل مغشيًّا عليه في غياهب النسيان، وهُزم الإنسان أمام مذاهب مغلقة حوّلت الإيمان الرحيب إلى كهف كئيب، إذ انبرى الفقهاء الكبار، تابعو الأئمة الأولين من أرباب المذاهب المعتبرين، إلى إعادة تفسير تلك المذاهب ليضيفوا إلى الضيق تضييقًا، ويزيدوا على ظلمة الكهف إظلامًا، فإذا بالإنسان يموت، ويصير الإله على مشارف الموت!.

لو لم يُرِد الله لنا أن نبنيَ ونعمّر ونزرع ونصنع ما أرسلنا إلى الأرض ولا أعطانا العقل المسؤول

بالطبع لن يموت الله (جلّ شأنه) في عرشه، ولا في كونه، بل فينا وداخلنا... يموت فينا عندما يُقتل طفل بلا ذنْبٍ جناه، أو يُباع رقيقًا في سوق النخاسة باسم "الجهاد في سبيل الله"... عندما تُغتصب امرأة لأنّ الذئب لم يرعَ فيها الله، أو تُسبى لأنّ مذهبها يغاير مذهب المجرم الذي اعتلاها من دون خشية من الله... عندما يُقتل شيخ كبير بسيف شاب صغير لم يرحم ضعفه ولم يحترم شيبته، بعد أن بدّدنا طاقات الحب لدينا على كهوف الكراهية، فلم يعُد الإيمان رحمة ولا الدّين رأفة، بل بات سيفًا على رقاب الآخرين، المخالفين في المذهب والطائفة وليس فقط في الدّين...

ويموت داخلنا لأننا لم نحفظ عهد استخلافه لنا برعاية الطبيعة وصون الحياة، حينما أخذنا ندمّر كل شيء لغيرِنا، فقط لأنه ليس ملكًا لنا، وهو في الحقيقة ملك الله... فكلّ شجرة تُقلع، وجسر يُدمّر، وبناء يُهدر، بمثابة عدوان على الله، وعلى أهمّ بند في عهد الاستخلاف الذي منحنا إياه. فلو لم يُرِدْ لنا أن نبنيَ ونعمّر، أن نزرع ونصنع، ما أرسلنا إلى الأرض، ولا أعطانا العقل المسؤول والوحي الرائق، فكلاهما لغة بها نعرفه، وبها نستعينه في أداء رسالة العمران، موضع القلب من كل إيمان، ولهذا كانت الأديان للإنسان وليس الإنسان للأديان.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن