نكاد نجزم بأنّ هذا النّزاع الذي عمّر لحوالى نصف قرن من الزّمن، لا يزال يراودُ مكانه، إذ كلّما برزت بارقة أمل، استجدّ من الوقائع والأحداث ما يعيده للمربّع صّفر، مربّع أواسط سبعينيّات القرن الماضي.
"جبهة البوليساريو" تتشبّث باستفتاء "تقرير المصير"
فـ"جبهة البوليساريو"، ومن خلالها الجزائر، جهارةً ومن خلف ستار، لا تزال كما كانت من ذي قبل، متشبّثةً بأطروحةِ "تقرير المصير"، المُفضي حتمًا في رأيها إلى الاستقلال التامّ، ثم إلى إقامة دولة "صحراوية"، على تخوم حدود المغرب مع موريتانيا ومع الصحراء الأفريقية الكبرى. ولذلك، نراها في الأراضي الجزائرية، مرابطةً بمخيمات "شبه مستقلّة"، لكنّها عرْضة للهشاشة الشاملة ولبؤسٍ في المعاش غير إنساني، ولا تقتات إلّا على ما تجود به المنظّمات الدولية المختصّة، أو الجمعيّات غير الحكومية، أو ما يأتيها من الجزائر، حاميها وسندها الأساس.
"الجبهة" تتشبّث باستفتاءٍ لتكريس الحقّ في تقرير المصير، يكون للساكِنة من خلاله الكلمة/الفصل، بين أن يبقوا ضمن السيادة المغربية، أو ينفصلوا عنها. صحيح أنّ "الجبهة" لا تتمنّع عن مناقشة صيغ أخرى، لكنّها تصرّ على أن تبقى في السياق الحصري لمطلب الاستفتاء.
أقصى ما يقدّمه المغرب "الحُكم الذاتي الموسّع"
أمّا المغرب، فلا يعتبر أنّ الاستفتاء مدخل قمين بوضع حدٍّ للنزاع، ليس فقط من الناحية المبدئية التي قد يكون من شأنِها وضع سيادته على المحكّ، بل أيضًا من الناحية الإجرائية الخالصة. ولذلك، فأقصى ما يقدّمه المغرب إنّما وضع "الحُكم الذاتي الموسّع"، يكفل للساكِنة حكم نفسها بنفسها دونما تدخّل من لدن السلطة المركزية، اللهم إلّا فيما يخص الجوانب السيادية المتعارَف عليها.
أمّا الأمم المتحدة، فتكتفي عبر مبعوثيها الخاصّين بتدبير النّزاع وفق موازين القوى بمجلس الأمن أو بناءً على توازنات مضمَرة لا يُسمح بتجاوزها. ومع أنّها لا تنجح دائمًا في جمع "الفريقيْن" للتداول في هذه الصيغة أو تلك، فإنّها تخفق في حلحلة "الملف" وإنجاز اختراق يُحيل إلى بصيصٍ من الحلّ.
لقد استنزف النّزاع مجهودًا ديبلوماسيًا كبيرًا، ومع ذلك، فإنّ هذا الأخير لم يفرز آفاقًا ناجعةً للتسوية، إذ بقي رهين حسابات كلّ دولة من دول مجلس الأمن، تصطف اليوم مع هذا الطرف ولا تخجل غدًا من تبنّي طرح الطرف الآخر. وبقي معلّقًا، فضلًا عن ذلك، بتطلّعات الزعامة في الإقليم.
إنّنا بخصوص "نزاع الصحراء" إزاء نزاع من طبيعة خاصة:
- "جبهة البوليساريو"، ومن خلفها الجزائر، تتدثّر خلف طرح "الحقّ في تقرير المصير"، المتجذّر في القانون الدولي والمكرّس في أكثر من دولة. وهي عندما تدفع به، فإنّ العديد من دول العالم تتفهّم طرحها وقد تتعاطف معه وتُجاريه، إذا لم يكن من الناحية العملية الخالصة، فعلى الأقلّ من وجهة النظر المبدئية الصرفة.
- المغرب، يعتبر الصحراء جزءًا لا يتجزّأ من ترابه ولساكنتها روابط تاريخية مع ملوكه، وأنّ القوس الاستعماري كان استثناءً لا يمكن الارتكان إليه لبناء القاعدة. بالتّالي، فهو يعتبر استرجاع الصحراء تطبيعًا مع واقع كان سائدًا قبلما تحتلّ إسبانيا المنطقة وتُقسّمها. إنّه بذلك، غير مستعد للتنازل عن السيادة حتى وإن تنازل لأبناء المنطقة عن الإدارة والتدبير.
الذي يؤجل الحلّ في الصحراء: قوة التدخلات الأجنبية المباشرة وحسابات ترتيب جغرافيا المنطقة
بيْد أنّ الذي يروَّج من بين ظهراني بعض القوى الدولية الوازنة في مجلس الأمن، إنّما التفكير في إعمال "حلولٍ وسطٍ" يكون من شأنها حفظ ماء وجه الأفرقاء، على أن يعمد فيما بعد إلى إيجاد حلٍّ تفاوضي يأخذ بعين الاعتبار مصالح المغرب في ألّا تزرع دويلة في خاصرته، قد يكون من شأنها تهديده، أو المسّ بأمنه القومي. ويأخذ بعين الاعتبار أيضًا مصالح أبناء المنطقة (في تندوف تحديدًا)، الذين يعيشون ظروفًا مزريةً وواقعًا معيشيًا صعبًا من حوالى نصف قرن من الزّمن. ويأخذ بعين الاعتبار، إلى جانب كل ذلك، دور الدول الكبرى التي لن ترضى بحلٍّ لا يخدم أجندتها أو يصون مصالحها الحيوية بالمنطقة.
هي معطيات ثلاثة، أسهمت بحقّ في استعصاء الحلّ، لكن استحضارها من جديد ضروري لتحريكه في أفق طيِّه. إنّ الذي يؤجل الحلّ في الصحراء إنّما أمران اثنان: قوة التدخلات الأجنبية المباشرة، وحسابات ترتيب جغرافيا المنطقة التي تقف خلفها بلدان عدة.
(خاص "عروبة 22")