في عام 2011، أقرَّ المجلس الوزاري العربي للمياه، التابع لجامعة الدول العربية، استراتيجيةً شاملةً للأمن المائي في الوطن العربي للفترة ما بين 2010 و2030. هدفت تلك الاستراتيجية إلى مواجهة التحدّيات المستقبلية وتحقيق متطلّبات التنمية المُستدامة. وتمثّلت الأولوية الرئيسيّة في التصدّي للتحدّيات المتعلّقة بإدارة الموارد المائية، من خلال خطّة عمل متكاملة. تضمّنت الخطة تعزيز بناء القدرات، ودعم البحث والتطوير، وتوفير خدمات مياه الشرب والريّ، واستخدام الموارد المائية غير التقليدية، إلى جانب الإدارة المتكامِلة للموارد المائية.
تهدف تلك الاستراتيجية إلى تنسيق وتوجيه الجهود العربية في مجال إدارة المياه لمواجهة قضايا شحّ المياه، والموارد المائية المشتركة، وآثار تغيّر المُناخ، التي تُمثّل التحدّيات الرئيسيّة في المنطقة. على الرَّغم من أنّ الاستراتيجية لم تُقدّم تعريفًا شاملًا للأمن المائي، فإنّ تركيزها كان واضحًا على معالجة ندرة الموارد المائية والتعامل مع تأثيرات التغيّر المناخي. كما أنّها تسعى إلى التوفيق بين ركائز التنمية الثلاث: الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية، بما يتماشى مع المفاهيم الحديثة التي تُركّز على الأمن البشري والتنمية المُستدامة.
تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية أكثر استدامة ودمج الطاقة المتجدّدة مع البنية التحتية أمر حاسم للأمن المائي
بالإضافة إلى ذلك، تتوافق الاستراتيجية مع الهدف العالمي للتنمية المُتمثّل في توفير مياه الشرب الآمنة وخدمات الصرف الصحي. وعلى الرَّغم من أنّها اعتُمدت في البداية كجزءٍ من أهداف الألفية الإنمائية، فإنّه يتمّ تحديثها حاليًا لتتوافق مع أهداف التنمية المُستدامة، وتتضمّن التحديثات: تعزيز النّهج التشاركي، حيث يتمّ تشجيع جميع فئات المجتمع على المساهمة في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بقطاع المياه.
تلعب تحلية المياه دورًا محوريًا في مواجهة نُدرة المياه في الوطن العربي، إذ تُنتج دول مجلس التعاون الخليجي ما يقرب من 60% من المياه المحلّاة في العالم، تأتي السعودية في المقدّمة بإنتاج أكثر من 4 ملايين مترٍ مكعبٍ يوميًا. وقد خفّضت تقنيّات مثل "التناضح العكسي" بشكل كبير متطلّبات الطاقة لتحلية المياه، بينما تُوفّر الابتكارات في تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية خياراتٍ أكثر استدامة، كما هي الحال في محطة تحلية المياه بالطاقة الشمسية في أبو ظبي، ومشروعات برنامج "نوفّي" في مصر، حيث من المخطّط إنشاء خمس محطّات لتحلية المياه موزّعة بين أربع محافظات باستخدام الطاقة الشمسية، بقدرةٍ إجماليةٍ تبلغ 525 ألف مترٍ مكعبٍ يوميًا، مع توقعات بزيادتها إلى 1.75 مليون متر مكعب يوميًا بحلول عام 2050. وفي المغرب العربي، هناك مشروع لتحلية المياه في أكادير، تبلغ تكلفته 2.5 مليار دولار، وهو مشروع طموح يجمع بين تحلية مياه البحر والريّ لدعم الزراعة والإمدادات المائية الحضرية.
إنّ دمج الطاقة المتجدّدة مع البنية التحتية للمياه أمر حاسم للأمن المائي المُستدام، فعلى سبيل المثال، يعمل "مجمّع نور للطاقة الشمسية" في المغرب على تشغيل أنظمة ضخّ المياه والريّ، مما يقلّل بشكل كبير من التكاليف التشغيلية وانبعاثات الكربون. كذلك، تهدف مبادرات التِّكنولوجيا النّظيفة في لبنان، المدعومة من المنظّمات الدولية، إلى دمج الطاقة المتجدّدة في نُظُم إدارة المياه لمعالجة التحدّيات المتعلّقة بالمياه والطاقة. ولا تزال إمكانات سوريا في مجال الطاقة المتجدّدة غير مستغلّة، مع تعرّض البنية التحتية للمياه للضرر بشكل كبير.
تعمل الأنظمة الذّكية على تحسين استهلاك وكفاءة المياه
يتم استخدام المياه المعالَجة بشكلٍ متزايدٍ لأغراض زراعية وصناعية وحتى للشرب في بعض الحالات. وتُعتبر المملكة الأردنية رائدةً في هذا المجال، حيث تقوم بإعادة تدوير أكثر من 90% من مياه الصرف الصحي الخاصّة بها، ممّا يُساهم في توفير 12% من إمدادات المياه في البلاد. وفي مصر، تتمكّن محطة معالجة مياه الصرف الصحي في بحر البقر، من معالجة 5.6 ملايين متر مكعب يوميًا، وتُستخدم لريّ الأراضي الزراعية المُستصلحة في سيناء. وقد أطلق لبنان مشروعات لمعالجة مياه الصرف الصحي، بدعمٍ من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، لمعالجة تلوّث نهر الليطاني وتحسين جودة المياه. وفي سوريا، تعرّضت أنظمة الريّ للدمار بشكل كبير جرّاء الصراع الداخلي، حيث تتراوح نسبة البنية التحتية المتضرّرة ما بين 50% و95%.
وتعمل التقنيات الرّقمية على تحسين أفق إدارة المياه في العالم العربي، إذ نفّذت الشركة الوطنية للمياه في السعودية شبكات ذكية تعمل بتقنيات إنترنت الأشياء، ممّا يُتيح مراقبة الكشف عن التسرّبات في الوقت الفعلي، وتقليل فقدان المياه بنسبة 21% في الرياض خلال أربع سنوات. وبالمثل، تعمل الأنظمة الذّكية في دبي على تحسين استهلاك وكفاءة المياه عبر الشبكات الحضرية. وتؤكّد الاستراتيجية الوطنية للمياه في لبنان 2024-2035 على استخدام أدوات الرّصد الرّقمي لتعزيز مرونة قطاع المياه وتحسين تقديم الخدمات. وكان من المتوقّع أن تستفيد البنية التحتية المائية في غزّة من النُظُم الذّكية لتحسين الموارد المحدودة، لكن الصّراع المستمر يُمثّل عقبةً كبيرة. أمّا في سوريا، فإنّ إدارة المياه تظلّ مجزّأة، حيث يتم التلاعب بها كأداة حرب.
على الدول العربية دمج التقنيات المتقدّمة لإدارة المياه والتعاون الإقليمي أمر ضروري في إدارة الموارد المشتركة
وتكتسب مشروعات جمع مياه الأمطار زخمًا في دولٍ مثل سلطنة عُمان، حيث يتمّ بناء السدود لتجميع مياه الأمطار وتخزينها لدعم الزراعة والمجتمعات الريفيّة. ويوفّر سدّ "وادي ضيقة" في عُمان أكثر من 100 مليون متر مكعب من المياه سنويًا، حيث يدعم المناطق الحضرية والريفية. ويتمتّع لبنان، بفضل تضاريسه الجبلية، بإمكانات كبيرة لجمع مياه الأمطار، حيث أظهرت المشروعات التجريبية في منطقة البقاع جدوى جمع مياه الأمطار للاستخدام الزراعي. أمّا حوض "نهر العاصي" في سوريا، فيواجه تحدّيات من التلوّث والاستنزاف، لكن جمع مياه الأمطار يمكن أن يُوفّر الدعم للمناطق الريفية المحيطة.
لمواجهة تحدّيات المياه بشكل شامل، يتعيّن على الدول العربية دمج التقنيات المتقدّمة في استراتيجياتها الوطنية لإدارة المياه. كما يُعتبر التعاون الإقليمي أمرًا ضروريًا في إدارة الموارد المشتركة مثل النيل والأردن ودجلة والفرات. ويمكن لكيانات قائمة، مثل "المجلس الوزاري العربي للمياه"، أن تلعب دورًا محوريًا في تعزيز التعاون والإدارة العادلة للموارد. وتُعتبر حملات التوعية العامّة أيضًا أساسيةً لتعزيز ممارسات الحفاظ على المياه بين المواطنين، بحيث يُمثّل استخدام المياه المنزلية ما يصل إلى 30% من الطلب في عدّة دول.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")