ينطوي نظام الحُكْم هذا على عيوب خطيرة ومدمّرة:
أولًا، من المحتمل أن تكون التكلفة الاجتماعية أعلى بكثير من الأشكال التقليدية للفساد. تمتدّ هذه التكلفة الباهظة التي يتحمّلها المجتمع نتيجة الاستحواذ على الدولة إلى ما هو أبعد من المجال الاقتصادي، حيث تقوّض سيادة القانون والأمن وحقوق الإنسان والديموقراطية والمساءلة، بالإضافة إلى تفاقم عدم المساواة والانقسام داخل المجتمع.
تمّ توسيع مفهوم "الاستحواذ على الدولة" ليشمل أيضًا قادتها و/أو أجهزتها
ثانيًا، يشمل مفهوم "الاستحواذ على الدولة" مظاهر سوء الحوْكمة التي، على الرَّغم من ضررها الكبير، قد تكون قانونيةً وتبدو أكثر حذاقةً من الرشوة الصريحة أو سرقة المال العام. ويرجع ذلك إلى أنّ التأثير القوي في سَنِّ قواعد اللعبة يضفي طابعًا من الشرعيّة على تصرّفات المستحوذين، ويضمن صياغة القوانين بطريقة لا تجعل أفعالهم غير قانونيةٍ تمامًا وفقًا للأعراف السائدة. وبعبارة أخرى، يسمح ذلك لهم بتحقيق مكاسب خاصة على حساب الصالح العام، مع تجنّب أي تبعات قانونية في الوقت نفسه.
ثالثًا، يشمل الاستحواذ على الدولة الجهات الفاعلة داخل الدولة (قادة الدولة - السياسيون والأحزاب السياسية) باعتبارهم المستحوذين، إلى جانب الجهات الفاعلة من خارج الدولة (غالبًا شركات ومؤسّسات خاصة قوية)، أو حتّى بتواطؤ مشترك بينهما. وبهذا، يمكن اعتبار القادة المستبدّين مستحوذين رئيسيين للدولة في بلدانهم. وعلى هذا الأساس، تمّ توسيع مفهوم "الاستحواذ على الدولة" من قبل الجهات القوية من خارج الدولة ليشمل أيضًا "الاستحواذ على الدولة" من قبل قادتها و/أو أجهزتها. ومع ذلك، تبقى هذه الفروقات قابلةً للتطبيق، إذ يُمكن القول بثقةٍ إنّ الشكل الأول ينطبق غالبًا على البلدان المتقدّمة الديموقراطية، بينما ينطبق الشكل الثاني على البلدان النامية السلطوية.
تأثير الفساد على الاقتصاد ملحوظ وسيّء ومن المتوقع أن يكون تأثير "الاستحواذ على الدولة" أسوأ بكثير
علاوةً على ذلك، يُعمّق ويُوسّع مفهوم "الاستحواذ على الدولة" من مفهوم الفساد. فعادةً ما يُنظر إلى الفساد على أنّه إساءة استخدام المنصب العام لتحقيق مكاسب خاصة، وقد ركّز تقليديًا على الأنشطة غير القانونية التي يقوم بها الموظّفون العموميّون لإثراء أنفسهم. لكن، وبشكلٍ أكثر وضوحًا، يميل هذا التعريف للفساد إلى تجاهل الدور المركزي الذي تلعبه الجهات الفاعلة الحكوميّة وغير الحكوميّة في عملية الاستحواذ على الدولة؛ كما أنّه لا يعالج مسألة ما إذا كانت "قواعد اللعبة" تُشكَّل أو تُخرّب لصالح النّخبة، ممّا يؤدّي إلى تكلفة عالية على المجتمع. وبما أن تأثير الفساد على الاقتصاد ملحوظ وسيّء للغاية - إذ تؤدّي زيادة بنسبة 1% في الفساد إلى تقليص نموّ الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.4%[2] على سبيل المثال - لذلك من المتوقع أن يكون تأثير "الاستحواذ على الدولة" أسوأ بكثير.
من الناحية التجريبيّة، يمكن بناء مؤشر "الاستحواذ على الدولة" لقياس مدى هذه الهيمنة في الدول العربية. والمؤشر مُركّب من ثلاثة مؤشرات فرعية رئيسية: حُكْم القانون الفاسد والمأسور؛ الوصول السياسي والسياسات المأسورة؛ والبيئة التمكينية المأسورة. ويتراوح المؤشر ما بين 0 (لا يوجد استحواذ) و100 (استحواذ كامل).[3]
يسرد الجدول أعلاه مؤشر "الاستحواذ على الدولة" في 17 دولة عربية (بالإضافة إلى كندا وتشيلي ونيجيريا لأغراض المقارنة) على مدى عاميْن لكلّ منها من 1996 إلى 2022. ويمكن استخلاص عدّة ملاحظات مهمة من بيانات عام 2022:
1 - يبلغ المتوسط للدول العربية المدرجة في القائمة 60.5، ممّا يعكس حقيقة أنّ العالم العربي ككلّ يخضع لاستحواذ الدولة بشكلٍ خطير. ونظرًا إلى أنّ الدول العربية معروفة على نطاقٍ واسعٍ بأنّها دول سلطوية واستبدادية إلى حدٍّ كبير، فإنّنا نتوقع أن يكون "الاستحواذ على الدولة" من قبل سياسييها وقادتها (داخل الدولة) وبالتالي هيْمنة الدولة هي الغالبة.
2 - فقط الأردن، وتونس على وجه الخصوص، لديهما مؤشران أدنى من 50. والواقع أنّ مؤشر تونس، البالغ 23.3، هو الأدنى في المجموعة، ويمكن مقارنته بتلك البلدان المتقدمة الوليدة (كتشيلي). وقد انخفض المؤشر من 66.8 في عام 1996، مما يشير إلى أنّ "الربيع العربي" في تونس كان مثمرًا إلى حدٍّ ما بعد خلع نظام بن علي سيّئ السمعة.
3 - أمّا أعلى الدرجات، وربّما بشكل غير مفاجئ، فهي لكلّ من سوريا واليمن والعراق والبحرين ولبنان ومصر، على التوالي: 93.7، و91.9، و85.2، و82.4، و80.5، و74.6. كما يُجسّد لبنان مثالًا جيدًا، حيث لم تتّخذ النّخبة السياسية أي إجراءات تصحيحية مثل فرض ضوابط على رأس المال أو إلغاء السرّية المصرفية، على الرَّغم من مرور ست سنوات على الأزمة الكارثية، وذلك لتفادي تعريض حرّيتهم في إخفاء وتحويل ثرواتهم غير المشروعة للخطر.
4 - جميع دول مجلس التعاون الخليجي تراوح مؤشراتها ما بين 51 و83، وتشير بذلك إلى أنّ الدول النفطية مُعرّضة للاستحواذ على الدولة (كنيجيريا)، كما هو متوقع. وتحظى الإمارات بأدنى مؤشر يبلغ 51.8 والذي يُفسّر جزئيًا نجاح الإمارات كمركز إقليمي وعالمي للأعمال. أمّا البحرين فتحظى بأعلى مؤشر ويبلغ 82.4، وبما أنّ البحرين هي "الأفقر" نسبيًا بين دول مجلس التعاون، لذا فهي تُمثّل حالةً مثيرةً للاهتمام حول ما إذا كان هذا هو سبب "الاستحواذ على الدولة" أو نتيجته.
السؤال الأهم عن كيفية الحدّ من مدى "الاستحواذ على الدولة" وعكس آثاره السلبيّة على النّاتج المحلّي الإجمالي
أخيرًا، نحن ندرك أنّ بناء مثل هذا المؤشر ليس عمليةً مثاليةً، وأنّ قيمه ليست مثاليةً أيضًا، إذ يمكن أن تكون عرضةً لأخطاء قياس ليست قليلة. وعلى هذا النحو، لا شكّ أنّ الدراسات الدقيقة والمفصّلة للبلدان الفردية حول "الاستحواذ على الدولة" تُعَدُّ نهجًا بديلًا أفضل. مع ذلك، وفي الوقت نفسِه، يُعدّ المؤشر تقريبيًا جيدًا، بخاصة عندما يتعلق الأمر بترتيب الدول منفردة ومدى "الاستحواذ على الدولة" في كلّ منها[4]. والأهمّ من ذلك، بالطبع، هو السؤال عن كيفية الحدّ من مدى "الاستحواذ على الدولة" وعكس آثاره السلبيّة على النّاتج المحلّي الإجمالي وتوزيع الدّخل. ونأمل أن نتناول هذه المسألة في مقال مقبل.
[1] كوفمان، د. "مسائل الاستحواذ على الدولة: اعتبارات وتجارب نحو مقياس عالمي"، نتائج التنمية، 2024.
[2] "تأثير الفساد على النمو وعدم المساواة"، منظمة الشفافية الدولية، 2014.
[3] كوفمان، د.، المرجع نفسه.
[4] في هذا الصدد، فإن الاختلافات عبر الزمان أو المكان، على سبيل المثال، أقل من 5-8 نقاط على مقياس من 0-100، ليست جوهرية.
(خاص "عروبة 22")