لم يكن لهذه البيانات أن تثير ما أثارته من ضجّةٍ إعلاميةٍ واسعةٍ، لو لم تكن تتضمّن معطياتٍ عن أسماء وشخصيات نافذة، لا عِلْم للمواطن العادي بما تتقاضاه من أجورٍ عاليةٍ وما تتمتّع به من امتيازات.
لم تُعلن السلطات عن مصدر الاختراق ولا حدّدت هوية المُخترقين، لكن وسائل الإعلام المقرّبة من مصادر القرار، أشارت مباشرةً إلى مجموعةٍ جزائريةٍ تُدعى "جبروت د.ز"، لم تتردّد بدورِها في تبنّي الهجمات، وإعلان مسؤوليتها عن التسريبات على موقعها على شبكة "تلغرام".
لم تمرّْ إلّا أيامٍ قلائل، حتّى أقدمت مجموعة هاكرز مغربية، تُدعى "فانتوم أطلس"، على عملية اختراق واسعة لمؤسسّة البريد والاتصالات الجزائرية، وقامت بتسريب عشرات الآلاف من الوثائق، شملت بيانات شخصية، وأوامر تحويل أموال، ووثائق إدارية سرّية بالغة الحساسيّة، ومعطيات داخلية تخصّ وزارة العمل.
لو بلغ الأمر مستوى تعطيل المَرافق العموميّة وتخريب البُنى التحتية الأساسيّة فقد يستحيل احتواؤه
هذا في الوقائع. أمّا في التبريرات، فقد جاءت بصيغة الفعل وردّ الفعل. فالمجموعة الجزائرية تتذرّع بكوْن إقدامها على هذا العمل، إنّما هو من باب الرّد الأوّلي على "تحرّشات مغربية بصفحات مؤسّسات رسمية جزائرية على مواقع التواصل الاجتماعي".
أمّا المجموعة المغربية، فقد اعتبرت أنّ العملية التي أقدمت عليها هي مجرّد "رسالة ردعٍ وتحدٍّ"، وأنّ "أيّ استفزاز مستقبلي سيقابَل بردٍّ مستهدفٍ وغير متناسب". وتؤكّد على هامش ذلك، أنّ "قضية الصحراء المغربية ليست موضوعًا للنّقاش".
ليس مُهمًّا هنا تبيان مدى هشاشة الأنظمة المعلوماتية المغربية والجزائرية، ولا حجم الاختلالات الهيكلية العميقة التي تُميّزها، دع عنك سوء التدبير المُزمن الذي يُلازم كل منها، تخزينًا للمعطيات وحمايةً لها ضدّ الاستهداف. هذا مبحثٌ آخر.
بيْد أنّ هذه المستجدّات الخطيرة لا يمكن أن توضعَ إلّا في سياق حالة الاحتقان المتقدّمة، التي يعيش البلدان على وقعِها منذ مدةٍ بعيدة. بدأت بالإغلاق التامّ للحدود، ثم بفرض التأشيرة على مواطني البلدين، ثم بارتفاع منسوب الاحتراب اللّفظي المُتبادل، مباشرةً أو من خلال وسائل الإعلام أو عبر منصّات التواصل الاجتماعي.
لو كان لنا أن نستقرئ ونُسائِل خلفيّات وتبعات ما جرى، لقُلنا التالي:
- أوّلًا: لم تصدُر عن البلديْن بيانات رسمية تندّد أو تستنكر ما وقع. يبدو هنا كما لو أنّ المستويات الرّسمية فضّلت الصّمت وفوّضت أمر التنديد والاستنكار للفاعلين غيْر الحكوميين، أحزابًا ونقاباتٍ ومنظمات مجتمع مدنيّ وإعلاميين ومؤثّرين في مواقع التواصل الاجتماعي. ومعنى ذلك أنّه لو سلّمنا بأنّ للواقعة خلفيّات سياسية، فإنّ إخراجها وتصريف تبعاتها قد أوكلا لغيْر المستويات الرّسمية المعنيّة مباشرةً بالأمر.
- ثانيًا: انتقال الصراع بين المغرب والجزائر للفضاء الرّقمي قديمٌ نسبيًا، إلّا أنّ الدّفع به لحدّ ضرب نُظم معلومات المنشآت العمومية والخاصة الحسّاسة لكلا البلديْن، أمرٌ جللٌ وغير مسبوق. إذ قد لا يقتصر في القادم من الأيّام، على اختراق المواقع والخوادم وتسريب المعطيات المخزّنة فيها، بل قد يصل إذا توافرت للهاكرز من الطرفيْن مفاتيح المنشآت الحسّاسة، لمستوى تعطيل المَرافق العموميّة وتخريب البُنى التحتية الأساسيّة، وشلّ العديد من القطاعات الحيوية التي لا تستقيم حياة الناس بدونها. لو بلغ الأمر هذا المبلغ، فإنّه قد يستحيل احتواؤه أو استشراف كلفة إعادة التشغيل المترتّبة عليه.
- ثالثًا: واهمٌ من يظنّ أنّ ما جرى هو حدثٌ عرضيٌ وعابر. أبدًا. إنّه برأينا، تحولٌ استراتيجيٌ كبيرٌ في بنية الصراع بين البلديْن الجاريْن، قد يُمثل إلى جانب التسابق المتسارع إلى اقتناء السلاح، مظهرًا من مظاهر الدفع بالاحتقان إلى مستويات اللّاعودة.
من أَمَرَ أو رتّب أو مَوّل هذه العمليات ينفخ في النّار
- رابعًا: نحن بإزاء ما جرى من عملية قرصنةٍ متبادلةٍ بين المغرب والجزائر، إنّما بإزاء شكلٍ من أشكال الحروب الهجينة، التي لا تحتكم لمرجعيةٍ ولا تنتظم في إطار. إذ لو سلّمنا جدلًا بأنّ عمليات الاختراق تتقاطع ضمنيًّا مع ترتيبات هذا البلد أو ذاك، فلا شيء يضمن ألّا يتمرّد أصحابها فيما بعد، ويبدأون في الاشتغال باستقلاليةٍ تامةٍ عن هذا التوجيه أو ذاك.
إنّ ما جرى ليس فعل هواة كما عهدنا ذلك في العديد من حالات الهاكرز في العالم. إنّه عملٌ مُنسّق ومؤطّر ومفكّر فيه من الطرفيْن، إذا لم يكن في تفاصيل التنفيذ وتوقيته، فبالتأكيد في خلفيات وحسابات من اتّخذ القرار. ويبدو أنّ من أَمَرَ أو رتّب أو مَوّل أو نَسّق هذه العمليات، لا يدرك معنى الحروب السيبرانية القادمة. لذلك تجده بجهلٍ كبيرٍ منه، ينفخ في النّار!.
(خاص "عروبة 22")