المؤكّد أنّ تركيا تغيّرت منذ عصر الرّئيس العِلماني المُنفتح على الإسلام، تورغوت أوزال، وتعلّم أطرافها الأساسيّون من عِبَرِ الماضي ودروسه الكثير، حتّى لوْ لم يصلوا بعد إلى الديموقراطية الكاملة.
النّموذج التركي أسَّس لخبرة سياسية تطوّرت مع الزمن
ما زالت تركيا تحتاج للمزيد من الإصلاحات حتّى تصلَ إلى دولة القانون، وما زال الحُكم الحالي يوظِّف القانون لأغراضٍ سياسيةٍ أو يطبّقه وفق أهواء سياسية، ولذا لم يكن غريبًا أن يُثير حبس عمدة إسطنبول، أكرم داود أوغلو، بتهم فساد، احتجاجاتٍ واسعةً داخل تركيا ونقاشًا أوسع خارجها، حول تقييم ما جرى في بلدٍ قطع شوطًا كبيرًا في اتجاه بناء دولة قانونٍ ديموقراطية مقارنةً بدول عربية وشرق أوسطيةٍ كثيرةٍ، ولكنّه لم يصل إليها بشكلٍ كاملٍ بعد.
الحقيقة أنّ قوّة النّموذج التركي تكمن في أنّه أسَّس لخبرةٍ سياسيةٍ تطوّرت مع الزمن، وأنّ بدايته الأولى كانت اقصائيةً وفرضت نموذجًا حداثيًا علمانيًا يستبعد الدّين من المجال العامّ وليس فقط من المجال السياسي، فمنعت "تركيا أتاتورك" ارتداء الحجاب وجعلت الأذان باللغة التركية وأمّمت المؤسّسات الدّينية، ولكنّها في الوقت نفسِه فصلت الدين عن السياسة وهي قيمةٌ ظلّت باقيةً على مدار أكثر من 100 عام وربّما كانت أحد الأسباب التي حفظتها من مصائر سوداء عرفتها الكثير من دول المنطقة حين دخلت في صراعاتٍ دمويةٍ حول قضيّة تطبيق الشريعة والحاكميّة لله في مواجهه مدنيّة الدولة.
وقد دخل النظام العِلماني في مواجهاتٍ خشنةٍ على مدار عقودٍ طويلةٍ مع التيارات المعارضة، وبخاصة التي امتلكت مرجعيةً دينيةً إسلاميةً، وكان انقلاب الجيش في عامَي 1960 و1980 يحمل عنوان الدفاع عن العِلمانية ومواجهة تهديد القوى الدينية. صحيح أنّها أقصت معها قوى ليبيرالية ويساريّة كثيرة إلا أنّ التيّارات الدينية والمحافِظة كانت هي أساس هذه المواجهات.
تطوّر نظام تركيا العِلماني فأصبح أكثر انفتاحًا وتطوّر نظامها السياسي فأصبح أكثر ديموقراطية
ولعلّ البداية كانت مع رئيس الحكومة، عدنان مندريس، الذي كان عضوًا في حزب أتاتورك "الشعب الجمهوري" واستقال منه، وأسّس عام 1946 أول حزبٍ سياسيّ معارضٍ في تركيا وهو حزب "الديموقراطية"، وتبنّى نهجًا ليبيراليًا متصالحًا مع الإسلام، وفاز في الانتخابات التشريعية ونجح في تشكيل الحكومة التي استمرّت حتى قام الجيش بانقلابٍ عسكريّ اتهم فيه مندريس (الليبيرالي) بالعمل على هدم النظام العِلماني وأُعدم في واحدةٍ من أكثر النقاط سوادًا في التاريخ التركي المعاصِر.
وجاءت تجربة حزب "السلامة الوطني" الذي أسّسه الرّاحل نجم الدين أربكان، في أكتوبر/تشرين الأول 1972، ليبلْور الطبعة الحزبيّة التركيّة للتيّارات الدّينية، وظلّ الحزب يعمل بشكلٍ شرعيّ لمدة ثماني سنوات حتّى أغلقه الجيش عقب انقلاب 1980، ليعود في عام 1983 تحت مسمّى جديد وهو حزب "الرّفاه"، واستطاع تشكيل حكومةٍ جديدةٍ في منتصف التسعينيّات انتهت بحظره في 1998.
جاءت بعدها تجربة رجب طيب أردوغان التي أجرت "التّطبيع" المطلوب مع النظام العِلماني، واعتبر حزب "العدالة والتنمية" نفسَه حزبًا محافِظًا ديموقراطيًا وليس إسلاميًا أو دينيًا، وأسّس لتجربةٍ اختلفت تمامًا عن تجارب تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي، فلم يطرح أردوغان تطبيق الشريعة الإسلامية ولم يعتبر حزبه دينيًا أو إسلاميًا، وأسّس عِلمانيةً متصالحةً مع القيم الثقافية والحضارية للدّين وليس مشروع إسلامٍ سياسيّ، فاحترم حقّ النّساء في ارتداء الزيّ الذي يروْنه مناسبًا في الجامعات والمؤسّسات العامة، وعادت الاحتفالات الدينية في رمضان والأعياد إلى الشوارع والساحات.
تركيا تشهد تدخلات وضغوطًا خارج صندوق الانتخابات الذي بقي نزيهًا وظلّ هناك رئيس يفوز بـ52% وليس 99%
التجربة السياسية التركية تطوّر نظامها العِلماني فأصبح أكثر انفتاحًا، وتطوّر نظامها السياسي فأصبح أكثر ديموقراطيةً، وكانت التجربة الرئاسية الوحيدة في الشرق الأوسط التي دخل رئيسها أردوغان "جولة إعادة" أمام منافسه مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو، كما أنّها نجحت في إدارة صراعٍ سياسيّ بين نسخةٍ "مُجدّدة" ومدنية من التيارات المُحافظة المسلمة ممثلةً بحزب "العدالة والتنمية" الحاكم مع نسخةٍ مجدّدةٍ وأكثر انفتاحًا من العِلمانية التركية ممثلةً بحزب "الشعب الجمهوري".
على الرَّغم من أنّ إدارة الصراع السياسي في تركيا لا تخلو من "أكتافٍ غير قانونية" وقيود على حرّية الصحافة والحرّيات الأكاديمية، كما أنّ البقاء الطويل لأردوغان في السلطة (23 عامًا) نقل له جانبًا من مثالب النّظم السلطوية، لكن مع ذلك، ظلّت تركيا تشهد تدخلاتٍ وضغوطًا خارج صندوق الانتخابات الذي بقي نزيهًا وظلّ هناك رئيس يفوز في الانتخابات بـ52% وليس 99%، كما بقيت المعارضة تتظاهر في الشوارع وتُعدُّ نفسَها لتداول السلطة عبر الانتخابات وليس عبر تدخّل الجيش كما كان يحدث في الماضي.
(خاص "عروبة 22")