بفحص ما أنتجه العرب على خلفيّة هذا التعريف أو المفهوم، نلاحظ أنّ عشرات العلماء العرب في اختصاصات العلوم الفيزيائية والرياضية والفلكية والتقنيات والتكنولوجيات قد أنجزوا أو ساهموا في تحقيق إنجازات نوعيّة عدّة نذكر منهم أحمد زويل (جائزة نوبل للكيمياء لابتكاراته في مجال كيمياء "الفيمتو" أصغر وحدة زمنية في الثانية)، ومايكل عطيّة (عالم الرياضيات اللبناني الذي يُعَدُّ من أبرز علماء الرياضيّات في العالم)، ومنير حسن نايفة عالم الذرّة فلسطيني الأصل والحاصل على أكبر عدد من براءات الاختراع في صنع جزيئات النانوسيليكون، والمصري محمد النشائي عالم الفيزياء ومصطفى شاهين العالم اللبناني الذي سُمّي الكويكب "شاهين 4103" باسمه، والمنجي الباوندي من تونس (جائزة نوبل في الكيمياء)، وفاروق الباز من مصر (جائزة نوبل).
من بين الأسماء أيضًا مَها عاشور وشادية حبال واللائحة تطول. كما برز علماء ونوابغ عدّة في مجال الطبّ، نذكر منهم مصطفى السيد ومجدي يعقوب ومايكل دبغي والياس الزرهوني وأحمد الطيبي.
اكتفى العرب المعاصرون بإعادة إنتاج ما أنتجه غيرهم وتوظيفه وإسقاط تلك النظريات والمناهج على المجتمعات
وفي مقابل تلك الإنجازات، لم يتمكّن العرب المعاصِرون في اختصاص العلوم الانسانية والاجتماعية والأدبيّة من إبداع أو إنتاج نظريات أو مناهج جديدة في اختصاصاتهم المختلفة، بل اكتفوا بإعادة إنتاج ما أنتجه غيرهم وتوظيفه وتعميم تلك النظريات والمناهج وإسقاطها على المجتمعات، حيث تهمّ على الخصوص حقول عِلم الاجتماع وعِلم التاريخ، والفلسفة وعِلم النفس، في الوقت الذي ترتبط فيه كلّ نظرية وكل مفهوم في سياقات محدّدة تاريخية واجتماعية وثقافية.
هذا أمرٌ نلاحظه بالنّسبة إلى أغلب تلك النّظريات والمفاهيم والمناهج التي كانت إفرازًا للتطوّر العام الذي عرفته المجتمعات الغربية، بتفاوتٍ، منذ عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى وعصر النهضة وعصر التنوير وصولًا الى الرّاهن، وهي ظروفٌ مختلفةٌ تمامًا عن بلدان الجنوب التي خضعت لفتراتٍ طويلةٍ للاستعمار بمختلف أشكاله ومضامينه.
لقد تأثّر جزءٌ هام من أفراد النّخب العربية بالإنتاج المعرفي واستندوا في بحوثهم إلى المناهج والمقاربات الأوروبية والأميركية، كما تفاعلوا مع كلّ نظرية ومنهجيّة جديدة كليًّا أو جزئيًا إلى أن تَفْتَقِدَ بريقها فيظلّون ينتظرون ما يستحدثه الآخر من مفاهيم ومناهج جديدة حتّى يلتقطوها ويستنسخوها ويوظّفوها ويدافعوا عنها بحماسةٍ لا نظير لها.
لقد حاول البعض من أفراد النخبة "تَبْيِئَة" أو "توطين" تلك المناهج والنظرّيات، جزئيّا أو كليًّا، في الوقت الذي لم يتردّد آخرون في إسقاطها من دون اعتبار لظروف نشأتها والتعامل معها برؤيةٍ نقديةٍ من دون أن يتمكّنوا من، وربما لم يفكّروا في، إنتاج منهجيةٍ أو منهجياتٍ أو نظرياتٍ جديدة.
لا ينسحب ذلك على العلوم الفيزيائية والرياضية والفلكية وغيرها، بل ينطبق خصوصًا على العلوم الإنسانية وهو الحال نفسه حتّى بالنّسبة إلى الإبداع في مجال الأدب (باستثناء حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل). وعلى الرَّغم من الكمّ الهائل من الإنتاج، لم يصل الأدب العربي إلى مرحلة التميّز عن بقية الإنتاج العالمي وظلّ الأدباء منبهرين بالمدارس والاتجاهات الأدبية العالمية (الأدب الوجودي والرواية الجديدة والواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية...) مقلّدين لها وهو الحال نفسه بالنسبة إلى النّقد، إذ ظلّ النقّاد بدورهم يعتمدون على التيارات والاتجاهات النقدية العالمية (البنيوية والسيمولوجية والشّكلانية وغيرها)، إضافة إلى إعادة إنتاجه من دون التمكّن من تجاوز ذلك، أو بناء نظريات ومناهج ذات ملامح خاصة مميّزة بأساليبها ومناخاتها بأفقٍ إنسانيّ، بعيدًا عن التقوْقع أو "العداء"، ولكن ليس الانبهار حدّ "الهوَس"، بل المهمّ في الأمر فهم المناهج والنظريات الجديدة وهضمها وتطويرها.
فهل النّخب العربية غير قادرةٍ على الإبداع والتجاوز والإنتاج، مقابل الاكتفاء بإعادة ما أنتجه الآخرون واستهلاكه من دون تطويره أو تجاوزه في الحدّ الأقصى؟
عوامل نفسية وتاريخية وثقافية ساهمت في تعطيل قدرة النُّخب العربية على المُساهمة في إنتاج المفاهيم والنظرّيات
يُبرّرُ البعض أسباب ذلك إلى عوامل عدّة منها أنّ العلوم والآداب بأشكالها وأنواعها المختلفة لا يمكن أن تزدهر إلا في مناخٍ من الحرية والانفتاح، وهو ما لم يكن متاحًا في معظم الدول العربية، إلا أنّ هذا المبرّر لا يبدو سليمًا بالمُطلق، وخير مثالٍ على ذلك ما أنتجته نُخب بعض دول أميركا اللاتينية في حقول الأدب والعلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية في ظلّ أنظمةٍ استبداديةٍ قاهرةٍ، كما أنّ المئات من أفراد النّخبة العربية المُقيمين في قَارَتَي أوروبا وأميركا أساتذة وباحثون وشعراء وأدباء ونقّاد ينعمون بالحرية، وبالإمكانيات التي يفتقدها أترابهم في بلدانهم الأصلية، إلا أنّهم لم يتمكّنوا بدورهم من التخلّص من تلك التبعيّة والوعي بالنظرة الدّونية التي ينظر بها الآخر للإنتاج العلمي والمعرفي والأدبي، على الرَّغم من أهمية جزءٍ هامٍ من ذلك الإنتاج.
نعتقد أنّ المسألة ذات ارتباطٍ قويّ بعوامل نفسيةٍ وتاريخيةٍ وثقافيةٍ ساهمت في تعطيل قدرة النُّخب العربية على المُساهمة في إنتاج المفاهيم والنظرّيات الجديدة، على أنّ ذلك لا يمكن أن يغيّب ما تحقّق معرفيًّا في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية عن طريق جزءٍ هامٍ من النّخبة العربية، وهو ما قد يشكّل أرضيةً للانطلاق نحو آفاقٍ إبداعيةٍ جديدة.
(خاص "عروبة 22")