يصحّ القول في هذا المعنى، إجمالًا، إنّ القيم المدنيّة الكبرى (العقل، الحرّية، التسامح، المواطَنة، الانسان...) قد خرجت من جوْف القيم الدّينية التي حكمت الفكر والمجتمع في الغرب الإسلامي طيلة القرون المتّصلة بين أعماق العصر الوسيط المسيحي (منذ القرن التاسع الميلادي، حين كانت هيْمنة الكنيسة على الفكر مُطلقة) وبين القرن السادس عشر (مع بدء حركات "الريفورم" أو الإصلاح الديني). خرجت من جوْفها، كما يُثبت لنا التاريخ البشري أنّ النّقيض يَخرج دومًا من النّقيض وفي صراعٍ معه مثلما يُثبت لنا التاريخ أنّ الأمر في الصّراع يؤول الى أحد حاليْن: توافقٍ واعترافٍ متبادلين أو هزيمةٍ واستسلامٍ يؤول إليها أحد الطرفيْن المتصارعيْن. وواقع التطوّر في الغرب الأوروبي، في الأزمنة الحديثة يُظهر لنا بوضوحٍ أنّ الصراع كان في البدء مزاحمة من قبل "الجديد" (في تجلّياته كافّة، العِلمية والإيديولوجية) ليغدوَ، في خطٍ تصاعديّ انتصارًا متناميًا للجديد على حساب "القديم" (في تجلّياته كافّة أيضًا).
يتعيّن الحديث عن نقلةٍ كيفيةٍ فعليةٍ وحاسمةٍ من النّقلات النوعية الفاعلة في الوجود البشري، نقلة أصبح الانسان بموجبها - ضدًّا على ما كانت الكنيسة تذيعه وتجاهد لترسيخه في العقول وفي النّفوس - يعتبر نفسه المرجعيّة العليا التي يكون الانطلاق منها ويكون الرّجوع إليها.
من التفاعل والتكامل بين قيم العقل والإنسان والحرّية نُسجت "القيم المدنيّة"
فالإنسان، في منظور فكر الأنوار (وهو التعبير الأسمى عن " الجديد" في مستوى الفكر أو النّظر المجرّد)، هو المصدر الأعلى للتشريع السياسي، فالسلطة السياسية هي في نهاية الأمر ثمرة تعاقدٍ بين أطرافٍ لها وجود فعلي وليس وجودًا مُتوهّمًا، ولا قداسة فيها ولا لها إلا تلك التي ترجع إلى احترام العقود والمواثيق التي يقرّها البشر بينهم وليس، كما تتوهّم النظرية الثيوقراطية التي تُمثّلها الكنيسة (أو تتوهّم ذلك) سلطةً تعلو على البشر وعلى العقل الإنساني. والعقل الإنساني هو المِعيار الأسمى الذي يكون الاحتكام إليه ويتعيّن الرّجوع إليه في تدبير قضايا المعرفة وشؤون الوجود الإنساني والهادي والمُرشد هو "الأنوار الطبيعية للعقل"، كما يقول ديكارت.
القول إنّ الانسان قيمة عليا ومرجعية أسمى في الوجود، واعتبار أنوار العقل الموجّه والآمر في الإنسان، قولٌ يفيد بأنّ الحرّية هي المجال والأفق الأرحب والجدير بالإنسان أن يوجد ويعمل فيه. ومن التفاعل والتكامل بين قيم العقل والإنسان والحرّية نُسجت "القيم المدنيّة" واشتدّ عودها فكانت تعبيرًا عن صعود "الجديد" وهيمنته، في مقابل بدء انحسار" القديم".
من منظومة " القيم المدنيّة" ننبّه، في وقفاتٍ وجيزةٍ سريعةٍ الى ثلاث منها - ولعلّها الأكثر ظهورًا وفعلًا في تنظيم الاجتماع الإنساني في الزّمن الغربي الحديث - والمُعاصِر خاصّة. قيم على أساسها ينهض الاجتماع البشري المُعاصِر: المُواطّنة، التسامح، الشأن العامّ. وكما هو الحال دومًا في البنيات كلّها، الذهنية والاجتماعية على السّواء، فإنّه لا اعتبار للتقديم والتأخير في الحديث عنها.
المواطن، باعتباره إنسانًا عاقلًا مسؤولًا يمتلك الرّشد ويتنفّس في فضاء الحرّية وفي أفقها، هو أس التعاقد الاجتماعي الذي يشرّع للحياة السياسية السليمة والطبيعية - تلك هي القضية المِحورية العُظمى عند فلاسفة التعاقد الاجتماعي وهي مدار الفكر السياسي الحديث وهي، من جهة أخرى، جوهر الصراع ومداره في مستوى المجتمع بين أنصار "القديم" ودعاة "الجديد".
حيث إنّ الدّين وما يمثله ويدعو إليه يتّصل بالحياة الخاصّة فإنّ منظومة "القيم الدينية" تغدو جزءًا من "المجال الخاص"
العلاقة التي تقوم بين المواطنين (الأحرار، العقلاء، بالغو سنّ الرشد) هي "المواطَنة". فالمواطَنة هي التجسيد الأسمى لما يقول عنه جان جاك روسو إنّه "الإرادة العامة" - تلك الرابطة القانونية والوجدانية التي توجد بيْن المنتسبين إلى "الوطن" الواحد، من دون اعتبارٍ لاختلاف منازعهم الروحية وانتماءاتهم العقائدية. ولا تكتمل الشروط الضرورية والكافية (كما يقول المناطقة) إلّا بتحقّق شرطيْن اثنيْن: أحدهما الحقّ في الاختلاف وقبول الآخر المغاير والاعتراف له بحقٍّ يُعادل ما يرجوه كلّ مواطن لنفسه، وثانيهما (أو الوجه الآخر لقطعة النقد الواحدة) هو التسامح. وعن اجتماع مبدأَي المواطَنة والتسامح يتحقّق معنى "جديد" أو ركن ثالث، جوهري، من أركان صحّة الوجود الإنساني وهو القول بالتمييز بين "الشأن العام"، وبين "الشأن الخاص". وحيث إنّ الدّين وما يمثله من قيمٍ ويدعو إليه يتّصل بالحياة الخاصّة (وبالتالي "المجال الخاصّ") فإنّ منظومة "القيم الدينية" تغدو، برمّتها، جزءًا من "المجال الخاصّ".
هل يعني هذا التقرير أنّ الدّين، في العالم الغربي، قد انحسر من الحياة العامة انحسارًا تامًّا؟ هل يصحّ الحديث عن "انحسار الدّين عن العالم"؟
قضية أخرى تستوجب حديثًا مُفردا.
(خاص "عروبة 22")