قطاعٌ في مرحلة مفصليّة: هل تُنقذ الصناعات التحويلية الاقتصادات العربية؟ (2/2)

في عالمٍ يُعاودُ التشظّي إلى تكتّلاتٍ اقتصاديةٍ وتنحسر فيه العوْلمة وتُعَادُ صياغة سلاسل القيمة العالمية، تقف البلدان العربية في لحظةٍ حرجةٍ تتطلّب منها إمّا الانخراط بجدّيةٍ في بناء قواعد صناعية قوية قادرة على توليد الوظائف وتنويع مصادر الدخل، أو الاستمرار في التبعيّة الاقتصادية وتصدير المواد الخام خامًا من دون قيمةٍ مُضافة. وعلى الرَّغم ممّا يُحقّقه بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من إنجازات، تبقى الصّورة الإجمالية للصناعة في المنطقة غيْر مُشرقةٍ إذا قُورِنت بالإمكانات البشرية والطبيعية والمالية المتوافرة فيها، ولا سيما عند النّظر إلى الفجْوة الواسعة بين اقتصاداتها وبين الاقتصادات الناشئة الأخرى، على صعيدَي التّكنولوجيا والتكامل الإقليمي والانخراط في سلاسل الإنتاج العالمية.

قطاعٌ في مرحلة مفصليّة: هل تُنقذ الصناعات التحويلية الاقتصادات العربية؟ (2/2)

لفتنا في الجزء الأول من هذه المقالة إلى أنّ بيانات "البنك الدولي" تشير إلى ضعف مساهمة الصناعة التحويلية في النّاتج المحلي للبلدان العربية مقارنةً بالمتوسط العالمي، فعلى الرَّغم من بعض النّماذج المتقدّمة، ولا سيما في الخليج، تبقى الصورة العامّة غير متجانسة، ولا يزال التعاون الصناعي العربي ضعيفًا ومجزأً بسبب غياب التنسيق، وتبايُن التشريعات، وافتقار المنطقة إلى مشاريع صناعية وتمويلية مشتركة، ما يحدّ من قدرتها على بناء كتلةٍ صناعيةٍ تنافسية.

ستظلّ المبادرات الوطنية محدودة الأثر من دون تعاون إقليميّ وتكامل في البنية التحتية والتشريعات

غياب التكامل لا يقتصر فقط على الدول العربية، بل يمتدّ أيضًا إلى علاقاتها مع التكتّلات غير العربية. فبينما تُقيم جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الهند وجمهورية البرازيل الاتحادية والجمهورية التركية شراكاتٍ صناعيةً استراتيجيةً في أفريقيا وآسيا الوسطى، تفتقر معظم البلدان العربية إلى حضورٍ صناعيّ مؤثّرٍ خارج حدودها، باستثناء بعض الشراكات الخليجية مع شركات أجنبية في مجال الطاقة أو البنية التحتيّة.

وفي زمنٍ تشتدّ فيه المنافسة العالمية على سلاسل القيمة، وتتحوّل فيه التكتّلات الكبرى إلى تحصينات اقتصادية، يبدو أنّ المنطقة العربية، على الرَّغم من موقعها الجغرافي المثالي، شبه غائبة عن هذا السباق.

وتمثّل التكنولوجيا فجْوةً أخرى صارخة، بحيث تشير البيانات إلى أنّ صادرات المنتجات ذات التّكنولوجيا المتقدّمة لا تمثّل سوى 2% من إجمالي الصادرات الصناعية العربية، مقارنة بنسبة 19% عالميّا. في المقابل، تعتمد معظم الصناعات العربية على التكنولوجيا ذات المستوى المنخفض أو المتوسط، إذ يُخصَّص أقلّ من 0.5% من النّاتج المحلّي الإجمالي للبحث العلمي، بينما تتجاوز النسبة 2.5% في بلدان مثل جمهورية كوريا (كوريا الجنوبية) أو جمهورية ألمانيا الاتحادية. والمُحصّلة أنّ الصناعة العربية تعاني من ضعف الابتكار، وغياب براءات الاختراع، وهجرة الكفاءات العلمية، وعزوف الجامعات عن الانخراط في تطوير حلولٍ تكنولوجيةٍ صناعية.

البلدان العربية تحتاج إلى الانخراط في التحوّلات العالمية التي يشهدها التصنيع

ومن المؤشّرات اللّافتة ضعف التنافسيّة الصناعيّة للمنطقة. ففي تصنيف "منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية"، تأتي دولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة 29 عالميًا، والمملكة العربية السعودية في المرتبة 51، ومملكة البحرين في المرتبة 35، ودولة الكويت في المرتبة 62. والمفارقة أنّ هذا التراجع يأتي على الرَّغم من وفرة الموارد المالية، وارتفاع الإنفاق الرّأسمالي، ما يشير إلى خللٍ في توزيع الموارد، أو قصورٍ في الخطط الصناعية، أو هيمنة سياساتٍ ريعيةٍ تقوّض الاستثمارات في الاقتصاد المنتِج.

في ظلّ هذه التحديات، تبدو الآفاق غير واعدة ما لم تحدث تحوّلات جذرية. إذ إنّ الارتقاء بالصناعة لا يتطلّب فقط استثماراتٍ ومناطق صناعية، بل يحتاج أيضًا إلى إصلاحاتٍ مؤسّسية، وتحسين مُناخ الأعمال، وتطوير التعليم التقني والمهني، وتوطين التكنولوجيا، وبناء سلاسل إمداد وطنية وإقليمية، وربطها بالسوق العالمية. ومن دون تعاونٍ إقليميّ حقيقيّ، وتكاملٍ في البنية التحتية والتشريعات، ستظلّ المبادرات الوطنية محدودة الأثر.

تحتاج البلدان العربية كذلك إلى الانخراط في التحوّلات العالمية التي يشهدها التصنيع، ولا سيما في مجالات الثورة الصناعية الرابعة، مثل الطباعة "ثلاثية الأبعاد"، وإنترنت الأشياء، والذّكاء الاصطناعي. هذه التّكنولوجيّات ليست أدواتٍ للإنتاج فقط، بل كذلك لإعادة رسم المشهد الصناعي العالمي. وإذا لم تستثمر الدول العربية فيها، ستظلّ عالقةً في الصناعات التقليدية، وستفقد قدرتها على المنافسة. الأمثلة كثيرة: السعودية تسعى إلى إنتاج سيارات كهربائية بشراكة مع "فوكسكون"، والإمارات تستثمر في تصنيع الرقائق الدقيقة، لكنّ غياب بنيةٍ إقليميةٍ تدعم هذه المبادرات يحدّ من أثرها الجيو-اقتصادي.

مستقبل العرب مرهون بتحويل ثرواتهم إلى صناعات وسوقهم المُجزّأة إلى فضاء اقتصاديّ متكامل وفاعل

أزمة المُناخ تُمثّل بدورها تحدّيًا وفرصة. يؤثّر تطبيق "آلية تعديل حدود الكربون" الأوروبية في صادرات البلدان العربية، ولا سيما في الألمنيوم والإسمنت والأسمدة. ومن دون دمج الاعتبارات البيئيّة في السياسات الصناعيّة، ستفقد هذه البلدان قدرتها على التصدير إلى الأسواق المتقدّمة. وفي المقابل، يمكن الاستثمار في الصناعات النّظيفة، والطاقة المتجدّدة، والبناء الدائري (Circular Construction)، لجعل الصناعة العربية جزءًا من الحلّ البيئي العالمي بدلًا من أن تكون جزءًا من المشكلة.

في النهاية، ليس التصنيع خيارًا ترفيهيًا، بل ضرورةً استراتيجية. لا يمكن تحقيق تنمية مُستدامة، ولا استقلال اقتصادي، ولا سيادة وطنية، من دون قاعدة صناعية متقدّمة. الثروة وحدها لا تكفي، والنفط لا يدوم، والأسواق لا ترحم. العالم يتحرّك بسرعة نحو إعادة ترتيب موازين القوة الإنتاجية، ومن لا يصنّع اليوم سيكون تابعًا غدًا. ولذلك فإنّ مستقبل العرب، اقتصاديًا واستراتيجيًا، مرهون بقدرتهم على تحويل ثرواتهم إلى صناعاتٍ، ومبادراتهم الفردية إلى شراكاتٍ جماعية، وسوقهم المُجزّأة إلى فضاءٍ اقتصاديّ متكاملٍ وفاعل.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن