بدائل غير تقليدية للاتحاد العربي!

لم تعد البدائل التقليدية لصناعة أي صورة من صور الاتحاد العربي ممكنة، فالمسارات التي سلكتها مختلف الأمم لتشكيل التحالفات العابرة للحدود منذ معاهدة وستفاليا عام 1648 وحتّى تاريخه، قد اعترضتها تحدّيات متراكبة عبر الزمن، كشفت عن استحالة إعادة صناعة التجارب السابقة، لأسبابٍ هيكليةٍ وأخرى عارضة.

بدائل غير تقليدية للاتحاد العربي!

مثلًا أيّ نموذج مشابِه للاتحاد الأوروبي لا بدّ أن يصطدم بالعقبات التي واجهت هذا الاتحاد في إذابة الحدود، وتوافق التشريعات، وتوحيد النُّظم الجمركية، ثم إصدار عملةٍ موحّدة... ولكن بصورةٍ أكثر عنفًا وأقلّ تسامحًا، نظرًا لأن تجارب الإخفاق والشلل في الاتحاد تظلّ أكثر بروزًا من مشاهد النجاح... خروج بريطانيا "Brexit" مثالًا، وأزمات الديون في اليونان وإيطاليا وإسبانيا... والأزمات الناشئة عن تفاوت أحجام ومساهمات أعضاء الاتحاد، والتي تضع ضغطًا هائلًا على ألمانيا الاتحادية... كلّ ذلك يجعل انطلاق أي تجربة تكامل أكثر حذرًا وأقلّ انسجامًا.

التطوّر التكنولوجي يلعب دورًا عميقًا في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي متى استلهم أساس نشأة الاتحاد الأوروبي 

أمّا المزايا المُتحقّقة للاتحاد الأوروبي فقلّما تكون حاضرةً أمام راغبي المُحاكاة، كون تلك المزايا قد استنفدت أسبابها في ظرفٍ دوليّ مختلف، لم تكن فيه أزمات شحّ العرض قد طغت على أزمات فائض الطلب، ولم تكن فيه تكلفة الأموال قد ارتفعت إلى هذا الحدّ، ولم تكن فيه أزمة تغيّر المناخ طاغيةً، مكبّلةً للكثير من المشروعات واستغلال الموارد والثروات، ولم تكن فيه حروب التجارة قد قسّمت العالم إلى مناطق تجاريةٍ صديقةٍ وأخرى معاديةٍ لقوًى متنافرة، ولم تكن العوْلمة كتيارٍ يدعو إلى الانفتاح على الغير والتكامل قد استُبدل به تيار العوْلمة العكسية، الذي يدعو إلى الانكفاء حول الذّات، والاكتفاء بما هو متاح محليًا أو في إقليمٍ ضيّقٍ على أحسن حال.

ولأنّ العالم يشهد تغيّراتٍ كبيرة، تمّ الإشارة إلى بعضها، والنظام الاقتصادي يمرّ في فترةٍ من السيولة نتيجة ما يمكن وصفه بأثر ترامب "Trump’s effect"، فإنّ "إجماع واشنطن" (Washington Consensus) بات على المحكّ، بما يتضمّنه من تعزيزٍ لمكانة مؤسستَيْ "بريتون وودز (صندوق النقد والبنك الدوليان) وما يراهن عليه من تحريرٍ للتجارة وحركة رؤوس الأموال والأفراد... الأمر الذي يُكسب التجمّعات الصاعدة فرصةً لإعادة تشكيل هذا النظام بشروطٍ أكثر إنصافًا للجنوب المقهور. هنا تأتي أهمية تجمّع "بريكس" – مثلًا - للمساهمة في هذا النظام الناشئ والتموضع فيه بشكل مختلف. وبالمثل، يمكن للدول العربية التي تجمعها عناصر ومصالح مشتركة أكثر بكثيرٍ من دول هذا التجمّع، أن تعزّز مكانتها في ظلّ تلك السيولة، مستفيدةً من التطوّر التكنولوجي وأدوات العصر، ومؤسّسة على الشروط الضرورية للتكامل ومنها تقارب الأصل والعِرق واللّغة والتاريخ والدّين والثقافة...

المشروعات القاطرة في وطننا العربي كثيرة ومتنوّعة

لكنّ التطوّر التكنولوجي المذكور يمكن أن يلعب دورًا عميقًا في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، متى استلهم من التجربة الأوروبية ركنًا واحدًا وهو أساس النشأة؛ فنشأة الاتحاد الأوروبي قامت على مشروع قاطرة (سبق أن تناولته في مقال سابق على هذه المنصّة الكريمة) وهو "اتحاد الفحم والصلب" أو "المجموعة الأوروبية للفحم والصلب" (ECSC) عام 1951 وهو "مشروع الضرورة" الذي شكّل حجر الأساس لمراحل التطوّر اللاحقة كافّة، بدءًا من منطقةٍ اقتصاديةٍ مشتركةٍ، مرورًا بإنشاء اتحادٍ جمركيّ، ثم الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، واعتماد نظام نقدي موحّد، وصولًا إلى العملة الموحّدة.

المشروعات القاطرة في وطننا العربي كثيرة ومتنوّعة، يجب أن تنطلق من ضرورة اقتصادية شديدة الإلحاح، مثل الفقر المائي، وسوء استغلال مصادر الطاقة، والحاجة إلى تعظيم العائد من مصادر الطاقة المستدامة... وهذه المشروعات العملاقة يمكن أن يتم طرحها وتخطيط مواردها وتمويلها بل وإدارتها عبر منصّات ذكية عربية، تستخدم تقنيات سلاسل الكتل والذّكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء لتعظيم العائد من تلك المشروعات، وتحييد العنصر البشري المُحمّل بإرثٍ من الانحيازات السياسية والثقافية والشعوبية، وتعزيز لامركزية إداراتها، بل وإدارة هذا العائد بأسلوب اقتصادي مبتكر.

لإقامة منصّات متعدّدةٍ بحسب طبيعة وحجم المشروعات العربية البينية بما يُعزّز من حجم التجارة والاستثمارات المشتركة

بخلاف ما هو شائع، تتجاوز تطبيقات سلاسل الكتل نطاق العُملات المُشفّرة، لتُحدث ثورةً في العديد من القطاعات الاقتصادية. ففي جنوب أفريقيا مثلًا، تدعم هذه التقنية تحوّلًا جذريًا في قطاع التمويل التجاري، ممّا يسهّل المعاملات عبر الحدود داخل القارة الأفريقية بسلاسةٍ وكفاءة. كما تُستخدم العقود الذّكية في مجال الاستثمار لضمان أعلى مستويات الشفافيّة وتحقيق إدارةٍ ماليةٍ أكثر دقّة. أمّا في الهند، فتُسهم تقنية سلاسل الكتل في إعادة تشكيل سلاسل التوريد الزراعية، حيث تساعد المزارعين على تحقيق أسعارٍ عادلةٍ وتُقلّل الهدر بنسبة تتراوح ما بين 15% و20%، ممّا يعزّز الاستدامة الاقتصادية. ومن جانبٍ آخر، تعمل أنظمة "الهوية الرّقمية" القائمة على سلاسل الكتل على توفير خدماتٍ أساسيةٍ لما يقرب من مليار شخص حول العالم ممّن يفتقرون إلى وثائق هوية رسمية، مما يسهم في تحسين فرص الوصول إلى الخدمات المالية والصحية والتعليمية.

كذلك، يحمل دمج تقنيات سلاسل الكتل مع التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي (AI) وإنترنت الأشياء (IoT) إمكانية إحداث تغييراتٍ جذريةٍ في القطاعات الصناعية والخدمية، بخاصة في الدول النّامية. يمكن لهذه التقنيات أن تعالج تحدّيات الموارد المحدودة، حيث تسهم أنظمة سلاسل الكتل المُدعّمة بإنترنت الأشياء في تحسين إدارة المياه بشكلٍ كبيرٍ في المناطق التي تعاني من نُدرتها. وفقًا للتقديرات، سوف تتمكّن هذه الأنظمة من مساعدة أكثر من 2.2 مليار شخص عالميًا في الحصول على مياهٍ آمنةٍ بشكلٍ مُستدام، من خلال إدارةٍ دقيقةٍ لاستهلاك الموارد المائية وتقليل الفاقد.

العملة الرقمية المستندة إلى العملات المعتبرة والذهب وبعض منتجات الطاقة تكتسب وزنًا للتخلّص من سطوة الدولار

وإذ أدعو إلى إقامة منصّات متعدّدةٍ بحسب طبيعة وحجم المشروعات العربية البينية، بما يُعزّز من حجم التجارة والاستثمارات المشتركة، فإنّ إصدار عملة رقمية مستقرّة (موازية ولا تحلّ محل الدولار بكلّ تأكيد في أي أجلٍ قريب) يمكن أن يُسهّل التعامل عبر تلك المنصّات، على أن تستند تلك العملة إلى رصيدٍ من العملات المعتبرة والذهب وبعض منتجات الطاقة، والتي تكتسب مع الوقت وزنًا إضافيًا في الاحتياطي، للتخلّص التدريجي من سطوة الدولار.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه بالأمس القريب، أصدرت ثلاث جهات إماراتية عملةً رقميةً جديدةً مستندةً الى الدرهم الإماراتي وتستخدم تقنية سلاسل الكتل التي تتبنّاها أهم العملات المُشفرة وفي مقدمها "بيتكوين". الجهات المصدّرة هي "الشركة العالمية القابضة" و"القابضة" (ايه.دي.كيو/ADQ) و"بنك أبو ظبي الأول"، والعملة تنتمي الى فئة العملات المستقرّة إذ ترتبط بعملةٍ قانونيةٍ وهي الدرهم وتخضع لرقابة وتنظيم المصرف المركزي. وللحديث بقية حول طبيعة عمل تلك المنصّات، وأهم الفرص والتحدّيات التي تواجهها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن