يأتي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط في لحظة إقليمية بالغة التوتر. فالحرب في غزة تتواصل وبسببها ينهار الوضع الإنساني لأكثر من مليوني فلسطيني، وبسببها تتعطل جميع جهود إعادة الإعمار التي صاغتها مصر واعتمدتها الدول العربية في خطة متكاملة لم يبدأ تطبيقها بعد.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد أنهت حملتها العسكرية على جماعة الحوثيين في اليمن بعد أن تعهدت الجماعة بالتوقف عن هجماتها على السفن التجارية والعسكرية المارة في البحر الأحمر، وحققت بذلك تحولًا إيجابيًا فيما خص أمن هذا الممر الحيوي، فإن المفاوضات الأمريكية الإيرانية لم تسفر بعد عن توافقات واضحة؛ إما بشأن الملف النووي لإيران، أو فيما خص سلوكها الخارجي في الشرق الأوسط، وكذلك فيما يتعلق بتخفيف العقوبات المفروضة عليها.
كذلك لم تتضح بعد توجهات إدارة دونالد ترامب الثانية فيما خص أزمات الشرق الأوسط الأخرى، لا سيما المتعلقة بالصراعات العسكرية المتواصلة في سوريا، التي رفعت عنها الولايات المتحدة عقوباتها بمقتضى إعلان ترامب في الرياض على الرغم من محدودية التزام حكام دمشق الجدد بالإجراءات الديمقراطية وبدمج جميع مكونات الشعب السوري، أو التوتر المستمر في ليبيا، والحرب الأهلية المشتعلة في السودان. كذلك لم يُعرف بعد أين تقف إدارة ترامب فيما خص فرص إعادة بناء الأمن والسلام في المنطقة بضمانات أمريكية، وما إذا كانت تريد استثمار أوراق قوة واشنطن لإنهاء الحروب وإنجاز تسويات سلمية تُفضي إلى دولة فلسطينية مستقلة، وتضمن أمن إسرائيل، وتحقق الاستقرار المنشود في لبنان وسوريا،وتنهي المأساة اليمنية والليبية والسودانية.
لذلك، أتوقع أن تسفر زيارة ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات في المقام الأول عن صفقات تجارية واستثمارية وأمنية بين الولايات المتحدة ودول الخليج، صفقات تجارية تعقدها واشنطن ثنائيا مع كل من الرياض والدوحة وأبو ظبي؛ فدول الخليج ترحب بتقوية التجارة مع الولايات المتحدة، وتُقبل على الاستثمار فيها، إما في مقابل صفقات سلاح، أو ضمانات أمنية، أو برامج جديدة للتعاون في مجالات الطاقة النووية وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي.
بجانب الصفقات التجارية والاستثمارية والأمنية مع الخليج، قد يوظف ترامب زيارته للخليج، والتي شهدت بجانب جولته على السعودية وقطر والإمارات قمة أمريكية خليجية شاركت بها أيضا الكويت وعمان والبحرين، للإعلان عن بعض المبادرات الدبلوماسية المهمة للشرق الأوسط؛ سواء تعلق الأمر بحرب غزة التي اقترح بشأنها المبعوث الأمريكي ويتكوف قبل زيارة ترامب وقف إطلاق النار من قبل إسرائيل نظير إطلاق حماس لسراح نصف الرهائن، أو بالأوضاع الإنسانية في القطاع التي تريد إدارة ترامب تمرير مساعدات إنسانية إلى داخله، أو بالموقف من سوريا التي أعلن الرئيس الأمريكي رفع العقوبات المفروضة عليها، أو المفاوضات مع إيران التي لم تسفر بعد عن نتائج محددة.
خلال الأسابيع الماضية، لم يُصدر عن إدارة ترامب سوى محاولات محدودة لاستعادة وقف إطلاق النار في غزة، وتصريحات قليلة عن الأوضاع الإنسانية الكارثية في القطاع. قد تسفر زيارة ترامب للخليج عن تصريحات جديدة بشأن ضرورة إنهاء الوضع الإنساني الصعب ووقف إطلاق النار، وهو ما ستؤيده حكومات الخليج. غير أن جدية الفعل الأمريكي سترتبط قطعا بجهد منظم لم يحدث بعد لوقف إطلاق النار وقبول البدء في تطبيق خطة إعادة الإعمار العربية؛ وهي الخطة الوحيدة المتكاملة والمتوافق عليها فلسطينيا وعربيا وأوروبيا،والقادرة على إحداث تغير فعلي على الأرض في القطاع.
غير أن المبادرات الدبلوماسية التي قد يعلن عنها ترامب لن تغير الواقع المرير في الشرق الأوسط سريعا. أما فيما خص مسألة التطبيع بين السعودية وإسرائيل، ومد الاتفاقات الإبراهيمية إلى سوريا وإسرائيل، فإن الخطاب الرسمي السعودي ثابت في ربطه الشرطي بين إقامة الدولة الفلسطينية، أو التوافق بشأن مسار جاد لإقامة الدولة الفلسطينية، وبين التطبيع مع إسرائيل. ومن ثمّ، لم يكن مفاجئًا أن يترك الرئيس الأمريكي ترامب وأن تترك القيادة السعودية الأمر دون إشارات صريحة، والاكتفاء بعبارات فضفاضة. أما شرط التطبيع مع إسرائيل الذي طالب ترامب من الرئيس الانتقالي السوري الالتزام به، فهو غير محل ترحيب من إسرائيل التي لا تثق في حكام سوريا الجدد، وتواصل اعتداءاتها على الأراضي السورية في الجنوب، وتهدد فعليا السلامة الإقليمية لسوريا.
كذلك تتسم زيارة الرئيس الأمريكي ترامب إلى الخليج بعدم اقتصارها على السعودية، وبكونها تشمل قطر والإمارات. أما قطر، فهى تحرص على بناء علاقات دبلوماسية وأمنية وتجارية قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، ودوما ما تنظر إلى هذه العلاقات كمكون هام لوجودها ودورها في الشرق الأوسط. تاريخيا، تخشى قطر من تهميش جيرانها الأقوياء، لدورها. وقبل سنوات، كانت المقاطعة التي فرضتها الرياض وأبو ظبي ومعهما المنامة والقاهرة على الدوحة تحديا صعبا للحكومة القطرية، ساعدها على التغلب عليه العلاقة الثنائية الجيدة مع الولايات المتحدة.
في هذا السياق، يمكن فهم الرغبة القطرية فى بناء علاقات صداقة مع الرئيس دونالد ترامب وإدارته، والحفاظ على العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة التي تظل قاعدتها العسكرية الأكبر في الشرق الأوسط هي "العديد" في قطر. ستتحوط قطر دوما من خطر تهميش دورها من جانب جيرانها الأقوياء، ودوما ما ستنظر للعلاقة الخاصة مع واشنطن كضمانة هامة لحضورها كقوة شرق أوسطية تماما مثلما ترى في دبلوماسيتها النشطة (العمل مع مصر على الوساطة بين إسرائيل وحماس، الوساطة في الماضي القريب بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في أفغانستان، الوساطة في جميع صراعات الشرق الأوسط الأخرى فى اليمن وليبيا والسودان) ضمانة إضافية لدورها الإقليمي. وينطبق ذات الأمر على الإمارات التي ترى في علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية مرتكزا حيويا للأدوار العديدة التي تقوم بها على امتداد ساحات الصراع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أما فيما خص إسرائيل، فإنه من المبكر للغاية الحديث عن تهميش تل أبيب في السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، كون ترامب يزور الخليج فقط ولا يعرج على إسرائيل لا في بداية ولا نهاية الزيارة. فالاهتمام الأمريكي بإسرائيل والالتزام بأمنها ليسا محل شك، وكل ما في الأمر هو أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تستمر حرب غزة إلى ما لا نهاية وتشعر بالإحباط نظرا لرفض بنيامين نتنياهو العودة إلى وقف إطلاق النار.
غير أن ذلك لا يعني تراجع العلاقات الأمريكية مع إسرائيل أو توجه إدارة ترامب إلى الضغط الحقيقي على تل أبيب. فزيارة ترامب الخليجية لها خلفيات تجارية واستثمارية وأمنية وتكنولوجية مع هذا الجزء الغني في الشرق الأوسط. أما بقية قضايا المنطقة، ومن بينها القضية الفلسطينية وأمن إسرائيل، فالجميع ما زال ينتظر أن يعرف أين تحديدا ستقف إدارة ترامب ومن سيصنع سياستها تجاه الشرق الأوسط؟.
