صحافة

لبنان بين الميكانيزم المالي والميكانيزم الأمني على أبواب الانتخابات

د.محمد موسى

المشاركة
لبنان بين الميكانيزم المالي والميكانيزم الأمني على أبواب الانتخابات

لم يعد صندوق النقد الدولي مجرّد عنوان مالي في النقاش اللبناني، بل تحوّل إلى إطار ناظم للمسار السياسي والأمني معاً، ولا سيّما مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي. فالمطلوب من لبنان لم يعد محصوراً بإصلاحات تقنية أو مالية، بل بات يتجاوزها إلى إعادة ضبط البيئة السياسية والأمنية بما يضمن "الاستقرار" كما تراه الجهات الدولية، لا كما يحتاجه المجتمع اللبناني فعلياً، ما يجعل من المسار الانتخابي جزءاً من إدارة الأزمة لا مدخلاً لمعالجتها.

في هذا السياق، يبرز مشروع الحكومة لما يُسمّى "الإنقاذ المالي" بوصفه التعبير الأوضح عن سطوة صندوق النقد الدولي على القرار الاقتصادي. فالمشروع، وخصوصاً في مقاربته لملف الودائع، لا ينطلق من مسؤولية الدولة عن الانهيار ولا من حماية حقوق المودعين، بل يأتي منسجماً إلى حدّ بعيد مع وصفات الصندوق وشروطه المسبقة. هكذا، يتحوّل الصندوق من جهة استشارية إلى مرجعية مقرِّرة، تحدّد الإطار العام للحلول، وترسم سقوف الممكن والممنوع، فيما تُعاد صياغة الخسائر على نحوٍ يُحمّل المجتمع العبء الأكبر منها تحت عناوين "الواقعية" و"إعادة التوازن المالي".

الأخطر في هذا المسار أنّ ملف الودائع، الذي يُفترض أن يكون قضية سيادية وحقوقية بامتياز، جرى تفريغه من مضمونه الوطني، وتحويله إلى بند تفاوضي خاضع لشروط خارجية. وبدل أن تُحاسَب الدولة على سياساتها، يُطلب من المودعين التسليم بالأمر الواقع، وكأن حماية الحقوق باتت مشروطة بموافقة صندوق النقد، لا بواجبات الدولة تجاه مواطنيها إن كان يسجل للحكومة السلامية انها وضعت الحل على المسار ولكن العبرة في القدرة على الإقرار في زمن الانتخابات؟

بالتوازي، يتقدّم العامل الأمني إلى الواجهة، لا بوصفه نتيجة طبيعية لاستقرار سياسي واقتصادي مستدام، بل كشرطٍ مسبق لإجراء الانتخابات وتدفّق أي دعم خارجي. وقد بات واضحاً أنّ لجنة "الميكانيزم" لم تعد إطاراً تقنياً لمتابعة الترتيبات، بل تحوّلت عملياً إلى أداة لإدارة الاستقرار ومنع الانفجار، وضبط الإيقاع السياسي والأمني، وتحديد هامش حركة الدولة ومؤسساتها في مرحلة حسّاسة خاصة ان يد الإسرائيلي مطلقة مع ضوء أميركي مفتوح ولا أوضح من كلام السفير عيسى حينما فرق ما بين عمل الميكانيزم لنزع السلاح وتوسيع الميكانيزم بالبُعد السياسي وتاليا كيف يصرف الكلام في بازار السياسة؟

إن التلازم بين المسار المالي والمسار الأمني أدخل لبنان في حالة ارتهان مزدوجة: ارتهان مالي لصندوق النقد الذي بات يمسك بمفاتيح السياسات الاقتصادية والخيارات الاجتماعية، وارتهان أمني لميكانزيم يُمسك بإدارة الاستقرار وتوقيت الانفراج أو التشديد. وبين هذين المسارين، علِقت البلاد في منطقة رمادية، لا هي قادرة على استعادة سيادتها في القرار، ولا هي قادرة على الخروج الفعلي من أزمتها، بل تُدار تحت منظومة شروط متشابكة تجعل من الإصلاح والانتخابات عناوين مؤجّلة إلى حين استكمال متطلبات الوصاية غير المعلنة.

وفي هذا الإطار، تُطرح الانتخابات المقبلة كسؤال إشكالي بحدّ ذاته: هل تُجرى بوصفها استحقاقاً ديمقراطياً يعبّر عن إرادة اللبنانيين، أم كمحطة إدارية تُدار تحت عنوان "منع الانفجار" وضمان الاستقرار؟ فالأمن هنا لا يُبنى عبر معالجة الأسباب البنيوية للأزمة، بل عبر إدارة نتائجها وتأجيل تداعياتها، فيما تستمر السياسات نفسها التي قادت إلى الانهيار.

اللافت أنّ الدولة اللبنانية، بدل أن تكون صاحبة القرار، تظهر كطرفٍ مُلحق، يفاوض باسم الآخرين، وينفّذ ما يُطلب منه تحت ضغط الانهيار المالي والخوف من الفوضى الأمنية. وهكذا، يصبح لبنان أسير معادلة قاسية: لا إنقاذ بلا صندوق، ولا انتخابات بلا أمن، ولا أمن بلا التزام كامل بالمسار المرسوم خارجياً، مهما كانت كلفته الاجتماعية والسيادية.

في المحصّلة، لم تعد أزمة لبنان أزمة مال أو إدارة فحسب، بل باتت أزمة سيادة بالمعنى العميق للكلمة. فمع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، تتكشّف صورة بلدٍ أُمسك بقراره بين ميكانزمين متوازيين: ميكانيزم أمني يُدير الاستقرار ويمنع الانفجار، وميكانزيم مالي يتمثّل بوصايا صندوق النقد الدولي التي ترسم السياسات وتحدّد الخيارات. وبين هذين القيدين، تبقى البلاد عالقة، والديمقراطية مشروطة، والسيادة مؤجّلة، فيما يُترك جوهر الأزمة بلا معالجة حقيقية.

(اللواء اللبنانية)
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن