صحافة

أوروبا تُراجع ذاتها في غزة.. الدوافع والمفاعيل

خالد أبو بكر

المشاركة
أوروبا تُراجع ذاتها في غزة.. الدوافع والمفاعيل

في لحظة فارقة، قررت أوروبا أن تنظر في المرآة. ما كانت تتجنبه لعقود، وما اعتادت دفنه تحت عبارات الحياد والالتزام بـ"حل الدولتين"، أصبح فجأة أمامها كجبل لا يمكن تجاهله: مجازر في غزة، تجويع ممنهج، آلاف القتلى والجرحى من النساء والأطفال والمدنيين العزل الأبرياء، وخطاب سياسي إسرائيلي لا يرى في الفلسطيني إلا عائقًا يجب إزالته.

هذا ليس تحولًا في اللهجة فقط، بل تحول في الضمير الأوروبي الرسمي. عواصم كبرى ــ باريس، مدريد، ستوكهولم، وحتى لندن ــ لم تعد تتحدث عن إسرائيل بصيغة "الحليف المظلوم"، بل بـ"الطرف الخارج عن القانون الدولي". وها نحن نرى للمرة الأولى منذ عقود، تزايد الانتقادات الأوروبية لإسرائيل، مع دعوات لمراجعة الاتفاقات ووقف تصدير الأسلحة، وسط تأييد متصاعد للاعتراف بدولة فلسطينية، حتى المستشار الألماني فريدريش ميرتس انتقد بشدة العمليات الإسرائيلية في غزة، معتبرًا استهداف المدنيين كارثة إنسانية، في مؤشر على تحول محتمل في الموقف الألماني التقليدي الداعم لإسرائيل.

لكن لنسأل السؤال الجوهري: ما الذي دفع أوروبا إلى هذا التحول الجذري الآن؟

الجواب يبدأ من تغيّر في توازن القوى الدولية؛ فالعلاقة العضوية التي طالما ربطت السياسات الأوروبية بالقرار الأمريكي تمر اليوم بمأزق واضح. الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترامب، تعيد تموضعها الإقليمي والدولي، وتتصرّف وفق مصالح لم تعد تتطابق دائمًا مع أولويات ومصالح أوروبا.

وحين لا تكون واشنطن مظلّة، تجد العواصم الأوروبية نفسها في موقع المسؤولية المباشرة عن أفعالها. لم يعد بالإمكان تبرير الصمت، لا شعبيًا ولا قانونيًا. فالمواد التي تستخدمها إسرائيل في قصف غزة تصنّع وتورّد من دول أوروبية، والعلاقات التجارية والعسكرية التي كانت تُدار في الظل باتت تحت الأضواء، تواجه أسئلة لا مهرب منها: هل تُشارك أوروبا، ولو بصمت، في حرب تُصنّفها محكمة العدل الدولية بأنها قد ترقى إلى الإبادة الجماعية؟

ثم هناك الوعي القانوني الجديد. قرارات محكمة العدل الدولية، وتزايد دعاوى الجنائية الدولية، وازدياد الأصوات الحقوقية داخل البرلمانات الأوروبية خلقت ضغطًا مركّبًا: داخليًا من المؤسسات، وخارجيًا من الرأي العام والمنظمات الحقوقية. وأمام هذا الضغط، لم يعد كافيًا إصدار بيانات "القلق"، بل بات لزامًا اتخاذ موقف، حتى لو رمزي، يعيد لأوروبا شيئًا من وزنها الأخلاقي المفقود.

لكن مع كل هذا، يبقى السؤال الأهم: هل تملك أوروبا القدرة على إحداث تغيير فعلي؟ هل يمكن أن تؤدي هذه المواقف إلى وقف إطلاق النار، أو تعديل في سلوك إسرائيل؟

الإجابة الواقعية: ليس وحدها؛ فالحلقة المفقودة لا تزال في واشنطن. أوروبا تُحرج إسرائيل، لكنها لا تردعها. تُلوّح بالعقوبات، لكنها لا تفرضها. وفي ظل حكومة إسرائيلية تتعامل مع كل نقد باعتباره "هدية لحماس"، فإن تل أبيب لا تأخذ المواقف الأوروبية على محمل الجد ما دامت تعرف أن الغطاء الأمريكي لم يُسحب تمامًا بعد. لكن هذا لا يقلّل من أهمية ما يحدث. فللمرة الأولى منذ عقود، تتشكل في أوروبا جبهة سياسية وشعبية ترى في فلسطين قضية عادلة، لا عبئًا دبلوماسيًا. هذا الوعي المتنامي قد لا يوقف الحرب اليوم، لكنه يُمهّد لمعادلة جديدة: أن إسرائيل لم تعد الطرف الذي يحظى بامتياز الحصانة الدائمة في الغرب.

يمكننا القول إنه إذا قررت أوروبا ــ ولو جزئيًا ــ أن تُقرن الأقوال بالأفعال، مثل مراجعة اتفاق الشراكة الأوروبي ــ الإسرائيلي الذي يعود إلى 1995، فإن الكلفة الاقتصادية وحدها قد تغيّر الحسابات في تل أبيب. وفق تقارير اقتصادية إسرائيلية، أي تعليق للاتفاق قد يُكبّد إسرائيل أكثر من 40 مليار يورو، وهو رقم لا يمكن تجاهله، حتى في أكثر الحكومات تطرفًا. في نهاية المطاف، أوروبا اليوم لا تقود، لكنها تُعلن أنها لم تعد تتابع من المقعد الخلفي. وهذا، في حد ذاته، بداية.

(الشروق المصرية)

يتم التصفح الآن