بصمات

"القوّة الناعمة" عربيًا: الشأن الدّيني نموذجًا

رحيل جوزيف ناي مؤخرًا، شكّل مناسبةً للحديث عن بعض تطبيقات أطروحته التي اشتُهر بها عالميًا، على غرار الشهرة التي واكبت كدّ بعض الأسماء الفكرية على مفاهيم وقضايا ("الرّأسمال" مع كارل ماركس، "الاستشراق" مع إدوارد سعيد، "الحياة السائلة" مع زيغمونت باومان، ضمن أمثلة أخرى)، والحديث عن مفهوم "القوّة الناعمة" الذي اشتغل عليه جوزيف ناي في كتابه الشهير الذي يحمل العنوان ذاته، ويمكن تلخيص فكرته الأساسية في أنّ تلك القوّة تُفيد القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الجذب، بدلًا من الإكراه أو العنف.

قد تشمل "القوة الناعمة" الجاذبيّة الثقافيّة، من قبيل أدوار الجامعات الأميركية أو ما تقوم به مؤسّسة "هوليوود"، كما قد تشمل الجاذبية الدّينية، وهذا عينُ ما نتوقف عنده في هذه المقالة، من خلال بعض التطبيقات العربية في هذا السّياق.

يتعلّق الأمر بثلاثة أنماط من التديّن، مُجسّدةً إمّا في مؤسّسةٍ أو في لقبٍ فخريّ، إلّا أنّ تبعات أداء هذه الأنماط تتجاوز السقف المحلي، لأنّها تمتدّ إلى الخارج، الإقليمي أو القارّي، وفي الحالتَيْن معًا، هي ذات تفاعل بشكلٍ أو بآخر مع أنماط التديّن في محور طنجة - جاكرتا، بكلّ التبعات السياسيّة المرتبطة بها، ومن هنا العودة إلى أهمية وأدوار "القوّة الناعمة".

لا توجد دول عربية يمكن أن تنافس المغرب ومصر والسعودية في تدبير الشأن الدّيني باعتباره "قوةً ناعمة"

نبدأ بالنّموذج الأوّل، وعنوانه مؤسّسة "إمارة المؤمنين" في المغرب، وهي مؤسّسة دينية، تسهر على تدبير الشّأن الديني في الساحة المغربية، لأنّ الملك في الحالة المغربية، هو أمير المؤمنين أيضًا، لكن تأثير المؤسّسة لا يقتصر على السياق المغربي/المحلي وحسب، وإنمّا يتجاوز ذلك إلى الخارج. ومن الصّعب حصر الأمثلة في هذا السّياق، نذكر منها تعامل الطرق الصّوفية في دول الساحل الأفريقي مع المؤسّسة نفسها، بحيث يصل الأمر إلى أنّها تتعامل معها من منظور علاقةٍ روحية، على الرَّغم من أنّها ليست مغربية الجنسية، أو مثال استقبال مؤسّسة إمارة المؤمنين لبابويّة الفاتيكان: المغرب هو الدولة العربية - الإسلامية الوحيدة التي استقبلت بابا الفاتيكان في أكثر من مناسبة، مرّة أولى في عهد الملك الحسن الثاني عندما استقبل البابا يوحنا بولس الثاني في 19 أغسطس/آب 1985، ومرّة ثانية عندما استقبل الملك محمد السادس البابا فرنسيس في 19 و20 مارس/آذار 2019.

نأتي للنموذج الثاني، ويهمّ مؤسّسة "الأزهر الشريف"، حيث أصبحنا نعايِن خلال السنوات الماضية، حديثًا بين الفيْنة والأخرى في بعض المنابر المصرية عن دور الأزهر الشريف باعتباره قوّةً ناعمةً مصرية، كما نقرأ في مادةٍ نشرتها منصّة المؤسّسة نفسها، ومؤرّخة في 16 أغسطس/آب 2017، أو مادّة أخرى تحت العنوان نفسِه مؤرّخة في 19 مارس/آذار 2019، وواضح أنّ هذا الخطاب كان غير متداولٍ قطّ في حقبة ما قبل أحداث 2011، أي أحداث "الفوضى الخلّاقة" عند البعض أو "الربيع العربي" عند البعض الآخر.

وأخيرًا، نجد لقب "خادم الحرمَيْن الشريفَيْن"، وإن كان الأمر لا يتعلّق بمؤسّسةٍ، على غرار الحالتَيْن المغربية والمصرية، وإنّما هو لقبٌ فخريٌ، لكنّه مرتبطٌ بمكانة وثقل الحرمَيْن الشريفَيْن، في مكّة والمدينة، بحكْم أنّهما يرتبطان بمناسك الحج، وبالتالي الارتباط بالرّكن الخامس من أركان الإسلام، لمن استطاع إليه سبيلًا كما هو معلوم.

المسألة الدينية من أهم تطبيقات "القوّة الناعمة" التي تُفيد في خدمة المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية

لا توجد دول عربية أخرى يمكن أن تنافس هذه النّماذج العربية الثلاثة في تدبير الشأن الدّيني باعتباره "قوةً ناعمة"، وذلك لاعتبارات عدّة، منها أنّ بعض هذه الدول المعنيّة بالمنافسة - من خارج الثلاثي المغرب ومصر والسعودية - حديثة التأسيس أساسًا، أو أنّ الأمر مرتبط بطبيعة النظام السياسي وتدبيره للحقل الديني، ضمن أسبابٍ أخرى.

ما يهمّنا هنا، الاشتغال على تعامل الدول الثلاث نفسها مع المسألة الدينية باعتبارها من أهم تطبيقات "القوّة الناعمة" التي تُفيد في خدمة مصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية في آنٍ، وكيف دبّرت تحوّلات أنماط التديّن، محليًّا وإقليميًا، وماذا عن أفق صيانة هذه القوّة أخذًا بعيْن الاعتبار تحدّيات الساحة حاليًا، وإكراهات الساحة نفسها لاحقًا، وهذا ما يتطلّب وقفةً تأمليّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن