الضفة الغربية.. عنوان مهم للقلق

لا تخفي إسرائيل منذ نشأتها في عام 1948 أطماعها في الضفة الغربية، وبرصد هذه الأطماع وتحركاتها على مدى العقود التالية لتاريخ الاحتلال، نجدها وقد سارت بطريقة متدرجة، لكنها لم تنقطع، بالكاد تخبو في بعض الفترات مثلما جرى الأمر عند تقسيمها إلى المناطق "أ" و"ب" و"ج"، وفق اتفاقية أوسلو المنشئة للسلطة الفلسطينية، بحيث كان المفترض حينها أن إرادة دولية تشكلت لأجل إعادة الأرض إلى أصحابها الفلسطينيين، مقرونة ببعض الأفكار التي تعاملت مع واقع المستوطنات الإسرائيلية التي تنامت بشكل معقد بعد 1967.

أشهر الأفكار التي تتعلق بتجاوز تعقيدات اتفاقية أوسلو، كانت آلية "تبادل الأراضي" من أجل فك الاشتباك الديموغرافي بين سكان الضفة الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين، لكن هذه الآلية لم تشهد النور ولا غيرها من الأفكار، فيما يخص استرداد الحق الفلسطيني في السيادة المتخيلة على الأرض. الاستبدال الوحيد الذي لامس الواقع؛ هو استبدال إسرائيل اجبارها على السلام، بمزيد من تغول الاستيلاء على أراضي الضفة التي باتت قضية جوهرية في المفهوم الاستيطاني لبناء دولة إسرائيل.

في منتصف حرب غزة تقريبا، بدأت إسرائيل في مخطط جعل الاستيلاء على أراضي مدن وقرى وبلدات الضفة الغربية، إحدي النتائج النهائية للحرب على غزة، أيا كانت تلك النهاية. الحرب على غزة وما يجري فيها، تكفي بالتأكيد لتكون بيئة مثالية للضجيج والإشغال والإنهاك لكل الأطراف الفلسطينية والإقليمية، المجتمع الدولي ـ بفرض جدية التسمية ـ لديه استعداد معقول لتمرير أي نتائج، لهذه الحرب التي أصابته بإرهاق أخلاقي مربك لأقصى حد. لكن إسرائيل لم تكتف بالحرب على غزة كستار للدخان، بل كان في هذه الفترة تحديدا الاشتباك مع إيران وحزب الله في ذروته، عندما حركت إسرائيل مطامع المستوطنين داخل الائتلاف الحكومي وخارجه، لتصبح هناك خطة عسكرية غير معلنة، للقيام بضم النصيب الأكبر من أراضي الضفة الغربية.

الخطة تعتمد على "النمط الكلاسيكي" الإسرائيلي للاحتلال، بحيث يكون الضم عبر تهجير أكبر عدد ممكن من التجمعات الفلسطينية التاريخية، مع التأكد من تدمير الحياة داخل المخيمات، على أن تقوم وحدات الجيش بارتكازات "مستديمة / مؤقتة" بعزل المناطق عن بعضها، ومصادرة الأراضي لمصلحة تعزيز الاستيطان. الأحزاب الدينية اليمينية تعمل بشكل متسارع لاستكمال هذا المشروع،من خلال تشريعات يجري سنها في الكنيست لضمان سيطرة أكبر على الضفة الغربية، لكن ما يجري حاليا هو تنفيذ المخطط ميدانيا، أي أن التنفيذ له الأولوية وجار بالفعل على الأرض، ثم تأتي لاحقا خطوات شرعنته عبر استصدار القوانين في الكنيست لتأمين استدامة الاستيلاء.

التقرير الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (الأرض الفلسطينية المحتلة) "OCHA"، المعنون بآخر مستجدات الحالة الإنسانية (رقم 291/ الضفة الغربية) في 21 مايو 2015. في النقاط الرئيسية للتقرير ذكر أنه بين يومي 13 و19 مايو، قتلت القوات الإسرائيلية ثمانية فلسطينيين، من بينهم طفلان، في الضفة الغربية. ومنذ يوم 14 مايو ولمدة وصلت إلى ثمانية أيام، فرضت القوات الإسرائيلية إغلاقا شبه كامل على أكثر من (11.000 فلسطيني) ببلدتي "برقين" و"كفر الديك" بمحافظة سلفيت، في الوقت الذي صعد فيه المستوطنون هجماتهم على الفلسطينيين في المنطقة.

ولفت التقرير إلى أمر بالغ الأهمية والمأساوية؛ أن عدد المنازل الفلسطينية التي يهدمها أصحابها بأنفسهم في القدس الشرقية، بحجة افتقارها إلى رخص البناء التي تصدرها إسرائيل، مازال آخذا في الارتفاع. فمما مضى فقط من عام 2025 وحتى الآن، هدم ما نسبته 62% من المباني الصادر بحقها قرارات هدم بمعرفة أصحابها ! بين أيام 13 و19 مايو، وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية هدم 25 منشأة يملكها الفلسطينيون، بحجة افتقارها إلى رخص البناء التي تصدرها إسرائيل، وبالطبع يعد حصول الفلسطينيين عليها أمرا من ضرب المستحيل. وقد هدمت أربعة من هذه المنشآت في القدس الشرقية، في حين شهدت هذه الفترة الوجيزة هدم 21 مبنى في المنطقة (ج)، مما أدى إلى تهجير ثماني أسر تضم 42 فلسطينيا، بينهم 22 طفلا، كما تم توثيق إلحاق الأضرار الجسيمة بنحو 140 مبنى آخر استعدادا وتأهيلا لهدم مستقبلي.

سجلت "منظمة الصحة العالمية" 108 هجمات على قطاع الرعاية الصحية في شتى أرجاء الضفة الغربية، أغلب هذه الهجمات مرتبط بالحصول على الرعاية الصحية، من بين هذه الهجمات وقع 67 هجوما في محافظتي جنين وطولكرم وحدهما، حيث لم تزل القوات الإسرائيلية تنفذ عملياتها هناك منذ 21 يناير 2025. وقد رفعت المنظمة تقريرا إلى جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بصيغة "نداء عاجل"، جاء في متنه الرئيسي أنه بين 7 أكتوبر 2023 و7 مايو 2025، مازالت القيود المفروضة من قبل الجيش الإسرائيلي على التنقل في شمال الضفة، لا سيما في محافظات جنين وطولكرم وطوباس وقلقيلية، تعوق كل مناحي الحياة الأساسية منها عمليات سيارات الإسعاف والعاملون في مجال الرعاية الصحية، مما يحد من إمكانية الوصول إلى الخدمات المنقذة للحياة.

لا تكترث إسرائيل بمثل تلك المناشدات، والإدانات، رغم أهمية صدورها لأول مرة بهذا الوضوح وتوثيقها أمميا بجميع تفاصيلها. ففي 21 مايو زار وفد دبلوماسي بصحبة أجهزة السلطة الفلسطينية، يضم دبلوماسيين من 32 دولة محافظة جنين قبل أن ينتقلوا إلى موقعين، هما بوابة حديدية وساتر ترابي عند مدخلين يؤديان إلى مخيم جنين. قامت القوات الإسرائيلية حينئذ بإطلاق الذخيرة الحية باتجاههم، بعدما قضى هؤلاء الدبلوماسيون ما يقرب من 15 دقيقة عند البوابة، وفي أثناء استعدادهم للمغادرة، لم تقع إصابات رغم خطورة الموقف برمته، وتمكن أفراد السلطة الفلسطينية من إخلاء الوفد من المكان بسلام، فيما صرح الجيش الإسرائيلي لاحقا بأن قواته أطلقت طلقات تحذيرية، بعدما انحرف الوفد عن خط السير المقرر له!

النهج الإسرائيلي تصادمي وكاشف بأنه يسابق الزمن؛ ضد كل من يقف في وجه هذا المخطط فلسطينيا أو دوليا. بعد أسبوع واحد من الزيارة الدبلوماسية وما جرى فيها، أقر مجلس الوزراء الإسرائيلي 29 مايو الموافقة على إنشاء 22 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، وصف في بيان الإعلان عنه بـ"القرار التاريخي".

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن