علينا ابتداءً التفكير في ما يربط الإنسان بمفاهيم الدولة والوطن والمجتمع والعالم. وهذا ما لا يُجدي فيه السلوك الاتهامي لفئةٍ دون أخرى بأنّها مسؤولةٌ عن تردِّي الوضْع إلى ما دونه من الظهورات الخطيرة للهُويَّات الطارئة أو الإثنيات النابتة أو الجماعات الخاصّة التي تستغلُّ انعدام مفهومٍ عامٍّ للاجتماع الرّاهن، فتبني الانتماءَ إلى الخراب في أعشاشٍ سكانيَّةٍ مُهملةٍ أو زواريب وأحياء وبيوتات مشكَّلة بطريقةٍ لا تسمح بالتغريد خارج السّرب، بما يحد من تفاعل قاطنيها بشكل حرّ خارج ما يملكونه من عقائد في الدّين والسياسة والمال.
إنّ الإنسانَ لا يكتفي بالمشاهدة من بعيد مكبوتًا بالخوف واليأس والشعور الدائم بالهزيمة، إذ من طبيعة الاجتماع البشري استئنافَ البناء والإعمار والتصريح الدائم بالقول والعمل، من هنا يتنامى الخطأُ بالتنازُل عن مواكبة الحدث والتمسّك العبثي بمواقف تسبقه أو تُعاديه باستخفافٍ خطير يُنكرُ تاريخيَّته وتحقّقه الظاهر.
البطولة لا يبنيها التعنُّت والتمسك الإيديولوجي بالمشاريع التي أثبتت فشلها
يتحدَّث نوربيرت إلياس في كتابه "ديناميّة الغرب" (La dynamique de l'Occident) عن نوعَيْن رئيسيَيْن من أنواع احتكار السلطة يسهمان في تكوين الدولة وتطوير قوانينها وإدارة مجتمعاتها هما احتكار السلاح والمال. يقول: "إنّ إقامة جهازٍ متميّزٍ للسيطرة هو بالتحديد ما يضمن الفاعلية التامّة للاحتكار العسكري والمالي، وهو ما يجعل من هذا الاحتكار مؤسّسة دائمة".
إنّ هذا الاعتبار البداهي في فهم تشكيل الدولة نستعيدُه اليوم من جهة التفاعل مع إشكاليةٍ حيَّةٍ أساسُها امتناعُ الكائنات الخاصَّة الموْهومة عن تسليم سلطاتها المالية والعسكرية لأنظمة الحُكْم في دولها. هذه الميليشيات، بالتسمية السياسية العسكرية، تقف عائقًا أمام التسريع في إرساء دعائم الدولة الرّاهنة، لكي تتمكّن من التقاط أنفاسها والانبعاث مجدّدًا بانفتاحٍ إراديّ على المجتمع العالمي المُهيمن اقتصاديًّا ومعرفيًّا وعسكريّا. وتفهم هذه الميليشيات هذا الانفتاح استسلامًا وتنازلًا عن القدرة الذّاتية لقوى الشر العالمية!.
إنّ البطولة لا يبنيها التعنُّت والتمسك الإيديولوجي بالمشاريع الراهنة التي أثبتت فشلها، بل تستدعي القراءة النّقدية الجريئة للتجربة السياسية والحزبية والعسكرية والنضالية الشاملة، بحيث نتمكَّن من التأسيس لخطاب الحقّ الذي يشرِّعُ لنا سُبُلَ التأسيس العلمي لمفهوم الواجب النضالي. وعلى هذا الاندراج الأخلاقي في بناء صروح المعرفة الوثيقة بالحدث تتكوَّن الثقافة الجديدة والعلوم الجديدة، وتنبني فلسفةُ البطولةِ التي نحتاجها ويبدأ عهدها الجديد.
لا ينفع نكران الهزيمة مع العدو ولا نكران الجريمة بحقّ بعضنا نتيجة مثالب الحكم والتحزّب والتعصّب وأمراض التسلّط والهيمنة. علينا الانبعاثُ في الاختبارِ الحيّ لِما تذَهَّنَ لدينا من مفاهيم وتصوّرات، حتى نتمكَّن من التموقع الذّكي في إدارتها وربطها بالتقنيات الراهنة، وإلّا نصبح على هامش الحركة الشاملة للبشر. يَذكر جان جاك روسو في خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر ما قاله برازيداس لأحد مرازبة الفُرس، الذي كان يُشبِّه حياة إسبارطة بحياة برسيبوليس: "أنا أعرف ملذّات بلدك، ولكنَّك لا تستطيع أنت أن تعرف ملذّات بلدي". فحتّى نتمكَّن من صدِّ الأجنبي وردعه عن الوقاحةِ في حيازة العالم، علينا أن نشتغل نحن على معرفة ملذّات بلدنا، وأن نستلذَّ العيشَ في بلادنا حتّى ندافع عنها. والدفاع عن الأوطان لا يكون إلّا ببنائها بحيث تُصبح حاجةً كونيةً لا يمكن تجاوزها في أي خطوةٍ للاجتماع البشري.
ما نريده من الدولة اليوم يرتبط بما نريده من الإنسان فينا
وتحتاج فلسفةَ الانوِجادِ الكوْني الإبداعي إلى وعيٍ بضرورة تطوير الفهم بحسب مستجدّات الحياة، وإلّا تتقادَم اللغة بتأخرها عن حاضرها، وتتلاشى الحاجةُ إليها، فإذا لم يقرّر أبناء اللغة توسيع دائرتها الاستيعابية للمفاهيم لن ينبعثَ على أيديهم أيُّ مفهومٍ ضروري للحياة، أي سيموت خطابُهم الحيّ، ويصبحون عالةً على مضامين الفهم الراهن.
يتحدث فريدريك نيتشه عن تقاليد الأحزاب، ويقول في إنسانيّ مُفرطٍ في إنسانيّته: "كلّ حزب يسعى إلى تتفيه كلّ ما ينشأ ويتطوّر خارجًا عنه؛ وإذا لم ينجح في ذلك يهاجمه بكلّ ما يستطيع من شراسةٍ بقدر ما يغدو ذلك الأمر أكثر جودة". فإذا تأمّلنا في هذا التوصيف الذي رمى به نيتشه سلوكيّة الأحزاب في التعامل مع خارجها أو محيطها، سنقف على العلَّة الأولى في تشريع الانتماء إلى الخراب، لذا علينا استشكالُ هذه السلوكية المعطوبة، وابتداء الخطو الوثيق إلى ما هو عِلمٌ بدل الاكتفاء القدري بما هو سائد. فما نريدُه من الدولة اليوم يرتبطُ بما نريده من الإنسانِ فينا، وما يقتضيه التجديد الثقافي للذّهنية كي لا تجثُم على مكنونتها فتتعفّن.
(خاص "عروبة 22")