بصمات

العرب والمسألة التّقنية

في كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" الصادر في نهاية الستينيّات، يتحدّث المفكر المغربي عبد الله العروي عن ثلاث شخصياتٍ محوريةٍ في الإصلاحية العربية الحديثة هي: رجل الدين والليبيرالي وداعية التّقنية.

العرب والمسألة التّقنية

ليس من همّنا الحديث عن الفقيه الإصلاحي ولا السياسي المُلتزم وإنّما عن داعية التّقنية الذي يعني به العروي نمطًا خاصًّا من المفكّرين المحدّثين يرى أن شرط النّهوض هو استيراد العلوم والصناعات الجديدة لبلوغ ما وصل إليه الغرب من تطوّرٍ ونموّ.

هذه الأطروحة تقوم على مصادراتٍ ثلاث كبرى، نادرًا ما يتمّ التعرّض لها، وهي:

- الحيادية القيمية والمعيارية للعلوم والتقنيات بصفتها من أدوات القوّة وشرط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وليست في ذاتِها موجّهةً بدلالاتٍ ثقافيةٍ أو عقدية. وِفق هذه الرؤية، يمكن الجمع من دون عوائق ولا مصاعب بين الثوابت والهويّات الدينية والحضارية من جهة، والتجارب الصناعية والتقنية التي كانت سبب نجاح الغرب في النّهوض والتقدّم من جهةٍ أخرى.

 النُّظُم الديموقراطية والاقتصاد الليبيرالي والحرّيات الفردية حصيلة تطبيق وتجسيد الرّوح العلمية التقنية

- اعتبار العِلم والتّقانة القاعدة المرجعيّة لمنظومة القيم الاجتماعية والسياسية والمدنية الحديثة، بحيث تكون النُّظُم الديموقراطية والاقتصاد الليبيرالي والحرّيات الفردية حصيلة تطبيق وتجسيد الرّوح العلمية التقنية.

- حصر مضمون العقلنة في التفكير العلمي التقني أي النزعة التجريبية الموضوعية والتدبير الإجرائي الأداتي، بما يعني إعادة قوْلبة الفكر والثقافة وإخراج الاعتبارات القيمية والاعتقادية من مجال المعْقولية.

إنّ هذه المُسلّمات لا تصمد أمام التمحيص والتدقيق على الرَّغم من شيوعها على أوسع نطاق. فقد بَيَّنَ الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر أنّ التقنية ليست محايدة، بل هي أساس الرؤية الميتافيزيقية للعصور الحديثة، ولا يمكن النّظر إليها كتطبيقٍ إجرائيّ عمليّ لقوانين عِلمية.

ما يوضحه هايدغر، وتؤكّد عليه الابستمولوجيّات النّقدية ما بعد الوضعيّة، هو أنّ مُسلّمة وجود قوانين ثابتة في الطبيعة يتمّ الكشف عنها من خلال النّماذج الرياضية المُطبّقة تجريبيًا هي مُسلّمة لا دليل عليها، حتى لو كانت ضروريةً في التفكير العِلمي.

في كتاب رينيه ديكارت المعروف بـ"خطاب المنهج" يقول بوضوح إنّ غرضه هو تأسيس العلم اليقيني "الذي يجعلنا سادةً وملّاكًا للطبيعة"، ممّا أدّى إلى قول هايدغر إنّ هذا الكتاب ليس مُصنّفًا في الفلسفة، بل" إعلان حرب" حقيقي (على الطبيعة).

صحيح أنّ الثورة التّقنية الأولى التي مهّدت للحضارة الحديثة كانت موجهةً بقيم التحرّر العقلي والاجتماعي، لكن سرعان ما أدرك فلاسفة القرن التاسع عشر أنّ مشروع التحرّر الإنساني عن طريق العِلم تحوّل إلى ظاهرةٍ عكسية، بطغيان العقلانيّة الأداتيّة المفصولة عن القيم والمعايير الخلقية، وسيادة نمطٍ من الإيديولوجيا الوضعية المتعصّبة الجامدة التي غدَت سلطةً فكريةً مُعيقةً للنقد والتحرّر.

بطبيعة الأمر، استفاد التيّار الليبيرالي الكلاسيكي من الإيديولوجيا العِلموية، فقدّم مقاييسه وبرامجه باعتبارها قائمةً على الموضوعية العِلمية واليقين البرهاني، وعملت مؤسساتٌ اقتصاديةٌ وماليةٌ دوليةٌ على تصدير هذه النّماذج الجاهزة باعتبارها صالحةً لكلّ المجتمعات والأمم لأنّها المسلك الوحيد للتقدّم والتنمية.

التقدّم التقني والعلمي شرط لا غنى عنه للنهوض والتنمية

في السنوات الأخيرة، انهارت هذه المُصادرات، وظهر أنّ التّقنية ليست بالضرورة الطريق إلى التحديث والتقدّم، بل لها وجوه متعددة، قابلة للتوظيف وِفق مقاربات ومناهج شديدة التباين والاختلاف. والواقع أنّ الأنظمة الشمولية القمعية استطاعت في ساحاتٍ عديدةٍ (في شرق وجنوب آسيا خصوصًا) تقديم الدليل الساطع على إمكانيّة الفصل بين التحديث التقني والاقتصادي ومنظومة الحرّية العامة، بل إنّ المجتمعات الليبيرالية الغربية نفسها انتقلت الى ما سمّاه بعض المفكرين "رأسمالية الرّقابة والضبط" التي ألغت عمليًا مكاسب التحرّر الفردي والجماعي.

خلاصة الأمر، أنّه لا مندوحة من العمل على التقدّم التقني والعلمي شرطًا لا غنى عنه للنهوض والتنمية، لكن التّقانة ليست بالضرورة الطريق إلى العقلانيّة والعدالة والتحرّر. وكان هايدغر يقول "إنّ العلم لا يُفكّر"، وهو يعني أنّ مداره هو النجاعة والتصرّف في الطبيعة لا التفكير في الوجود والقيم الإنسانية. ومن هنا ندرك أنّ النهضة العربية المنشودة لا بدّ أن تجمع بين الممارسة التقنية والتفكير العقلاني الصارم الذي يقتضي في بعض الأحيان التخلص من الإيديولوجيا العِلموية والميتافيزيقا التقنية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن