في ظلّ هذه التحديات، يُعدّ التكامل الإقليمي في قطاع الطاقة حلًّا ضروريًا لضمان استقرار الإمدادات، وتعزيز كفاءة الاستخدام، وتحفيز النموّ الاقتصادي المُستدام. من خلال التعاون عبر الحدود، وتطوير شبكات البنية التحتية، وتعزيز التجارة البينيّة للطاقة، يمكنُ للمنطقة أن تتجاوز العقبات الرّاهنة، وتنشئ منظومة طاقة أكثر استقرارًا وفعّاليةً، ممّا ينعكس بشكل إيجابي على التنمية الاقتصادية الإقليمية.
أهمية التكامُل الإقليمي تكمن في خفض التكاليف وتعزيز استقرار الشبكات واستغلال الإمكانات الهائلة في المنطقة
مع انتقال العالم نحو الكهرباء "Electrification" وبدائل خفض الانبعاثات الكربونيّة، تتجه أنظار المنطقة نحو مشروعات الرّبط الكهربائي، والتجارة في الغاز الطبيعي بأشكالها المختلفة، إذ يمكن اختزال التحوّل الطاقي الشامل في هذَيْن المجالَيْن لعقودٍ مقبلة.
يُعدّ الغاز الطبيعي وقودًا انتقاليًا هامًّا، إذ يَعْبُرُ به المستهلكون من المنتجات الكربونيّة الثقيلة شديدة التلويث (مثل النّفط الخام)، إلى المنتجات الخضراء مُنخفضة البصمة الكربونيّة، في حين أنّ مشروعات الرّبط الكهربي، مثل السوق الكهربائية العربية المشتركة (PAEM) وشبكة مجلس التعاون الخليجي، والمشروعات البينية... تُمثّل دعائم أساسيةً لتحسين كفاءة الأسواق وتكامل مصادر الطاقة المختلفة.
تكمُن أهمية هذا التكامُل الإقليمي في خفض التكاليف، وتعزيز استقرار الشبكات، وخفض الاعتماد على مصادر الطاقة الطارئة عالية التكاليف والمخاطِر، إضافةً إلى استغلال الإمكانات الهائلة للطاقة الشمسية والرّياح والوقود الحيوي في المنطقة. وتهدف منصّة التجارة الإقليمية للطاقة (PA-RETP)، التي أُطلقت بدعمٍ من "البنك الدولي" و"جامعة الدول العربية"، إلى توحيد الأطر التنظيمية وتمويل مشروعات الرّبط الإقليمي في المنطقة.
"خط الغاز العربي" يواجه عقبات كبيرة نتيجة الاضطرابات السياسية وضعف البنية التحتية
على الرَّغم من الوفرة الكبيرة في موارد النّفط والغاز في المنطقة العربية، تواجه بعض الدول تحدّياتٍ في تأمين الإمدادات.
في مصر، أدّت زيادة الاستهلاك المحلّي إلى تراجع صادرات الغاز المُسال بشكلٍ ملحوظ، ممّا دفع الحكومة إلى استئجار وحدةٍ عائمةٍ لإعادة التغويز بهدف تفادي انقطاعات الكهرباء وضمان استقرار الشبكة. ومع تفاقم أزمة الإمدادات، تتعاقدُ مصر على توفير ثلاث وحداتٍ عائمةٍ هذا الصيف، حيث تسعى إلى تعزيز القدرة التشغيلية لتلبية الطلب المتزايد.
أمّا سوريا، فتعاني من أضرار جسيمة في بنيتها التحتيّة الغازية نتيجة الصراع المستمرّ، مما يحدّ من قدرتها على المشاركة في تجارة الغاز الإقليمية، على الرَّغم من موقعها الاستراتيجي الذي يؤهّلها لأن تكون نقطةً محوريةً في هذا المجال.
في ظلّ هذه التحدّيات، كان يُفترض أن يصير "خط الغاز العربي" مشروعًا إقليميًا رائدًا لتعزيز تجارة الغاز بين الدول العربية، لكنّه يواجه عقباتٍ كبيرةً نتيجة الاضطرابات السياسية وضعف البنية التحتية. وعلى الرَّغم من الاتفاقات القائمة بين مصر والأردن وسوريا لضخّ الغاز إلى لبنان، إلّا أنّ السّعة التشغيلية للخطّ لا تزال محدودة، ممّا يعيق قدرته على تحقيق الأهداف المرجوّة. في المقابل، يُعدُّ مشروع "دولفين" الذي ينقل الغاز القطري إلى الإمارات وعُمان، واحدًا من أهم المشروعات الإقليمية وأكثرها استقرارًا، لكنّه لا يغطي احتياجات دول شمال أفريقيا وبلاد الشّام، ممّا يُبرز الحاجة إلى حلولٍ أكثر شمولية لضمان أمن الطاقة في المنطقة.
التقلّبات الدولية والإقليمية العنيفة ضاعفت من الأزمة، فالحرب الروسية - الأوكرانية زادت من الضّغط على أسواق الغاز العالمية، ممّا رفع الطلب الأوروبي على صادرات الغاز من قطر والجزائر. كما أنّ العدوان الاسرائيلي على غزّة أثّر على استثمارات الطاقة، وأدّى إلى إرجاء العديد من مشروعات البنية الأساسية في المنطقة.
وتتعرّض تجارة الغاز الإقليمية إلى تحدّياتٍ مختلفة، أهمّها دعم أسعار منتجات الطاقة في بعض الدول، الذي يشوّه الأسعار، ويُضعِف حوافز الاستثمار في التجارة عبر الحدود. كما أنّ التوتّرات السياسية تحدّ من التعاون البيْني، إلى جانب محدوديّة شبكات البنية التحتية العابرة للدول. ومع ذلك، تمكّنت بعض الدول مثل الأردن والكويت من تعزيز قدراتها في استيراد الغاز المُسال، بينما تبقى قطر والجزائر متمسكتَيْن بالتصدير إلى الأسواق العالمية الأكثر ربحًا.
تحقيق تكامل شامل في شبكات الكهرباء يعزّز أمن الطاقة ويدعم التنمية الاقتصادية المُستدامة
وفيما يتعلق بالرّبط الكهربائي، تتّخذ المنطقة خطواتٍ ملموسةً نحو إقامة السّوق الكهربائية العربية، وقد صادق القادة العرب على اتفاقات الحوْكمة في ديسمبر/كانون الأول 2024. ويُتوقّع أن يُحَقِّقَ المشروع وفوراتٍ تتراوح ما بين 107 و196 مليار دولار، بالإضافة إلى دمج نحو 192 غيغاوات من الطاقات المتجدّدة، ممّا يعزّز النموّ الاقتصادي وتوفير الوظائف. ويُعدّ الربط الكهربائي بين مصر والسعودية من أبرز مشروعات الربط، حيث تبلغ طاقته التبادلية 3000 ميغاوات عبر خط تيار عالي الجهد بتكلفة 1,8 مليار دولار. كما تسعى شراكات "يورو - مينا" إلى تعزيز الرّبط الكهربائي بين شمال أفريقيا وأوروبا، بخاصة في مجالات الهيدروجين والطاقة المتجدّدة.
وقد شهدت المنطقة مشروعاتٍ إقليميةً هامّة مثل "الرّبط المغاربي" الذي يربط المغرب والجزائر وتونس، والمشروع الإقليمي "EIJLLPST" الذي يضمّ مصر والعراق والأردن وسوريا وتركيا ولبنان وليبيا وفلسطين. كما تُعدّ شبكة دول مجلس التعاون الخليجي الأكثر نُضْجًا، وقد أقيمت عام 2001 بإنشاء هيئة الرّبط الكهربائي لدول المجلس، والتي طوّرت شبكةً إقليميةً على ثلاث مراحل بقدرة إجمالية 2400 ميغاوات، وحققت وفوراتٍ تُقدّر بأكثر من 3 مليارات دولار، من خلال مشاركة الاحتياطيّات وتخفيض كلفة الوقود. وفي عام 2009، وقّعت دول المجلس اتفاقية تبادل الطاقة (PETA) لتسهيل بيع الكهرباء بين الدول، مما أدى إلى تعزيز الاستقرار وتقليل الحاجة إلى بناء محطاتٍ جديدة. وتُعدُّ السعودية والإمارات رائدتَيْن في دمج الطاقة الشمسية والرياح في شبكتيهما.
نموذج الشبكات الذكية يمكن أن يمثّل أساسًا لتطوير البنية التحتية الإقليمية
على الرَّغم من التقدّم المحقّق، لا تزال المنطقة تواجه تحدياتٍ جوهريةً مثل: الاختلافات التنظيمية، والاعتبارات الجيوسياسية، والتشابه في فترات الضغط على الاستهلاك، ممّا يتطلّب سياسات وأكواد موحّدة، واستثمارات مكثّفة في الشبكات الذّكية وأنظمة المراقبة الرّقمية لتعزيز الكفاءة التشغيلية. وتشير بعض التوقّعات المتفائلة إلى أنّ المنطقة قد تُحقق تكاملًا شاملًا في شبكات الكهرباء بحلول عام 2035، وهو ما من شأنه أن يعزّز أمن الطاقة ويدعم التنمية الاقتصادية المُستدامة.
من ناحيةٍ أخرى، يكتسب التحوّل الرّقمي أهميةً متزايدة، إذ يتمّ الاعتماد على أدوات تحليلٍ قائمةٍ على الذّكاء الاصطناعي لتحسين توزيع الكهرباء وتعزيز كفاءة الاستخدام، إلّا أنّ 35% فقط من الدول الأعضاء تستخدم أنظمةً رقميةً للمراقبة، ممّا يشير إلى الحاجة لتوسيع نطاق التطبيقات الذّكية. وتُعدّ مبادرة الإمارات للشبكات الذّكية نموذجًا واعدًا يمكن أن يُـمثّل أساسًا لتطوير البنية التحتية الإقليمية، إلّا أنّ تعميم هذه التجربة على مستوى المنطقة يتطلّب جهودًا مُنَسقةً واستثماراتٍ أكبر لضمان نجاحه.
(خاص "عروبة 22")