لم يكن "الفيتو" الأميركي الذي رُفع أمس في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة وإتاحة دخول المساعدات الانسانية بدون قيود إلى القطاع المُحاصر سوى تأكيد على الدعم اللامتناهي الذي توفره واشنطن لتل أبيب للاستمرار في حرب الابادة. فرغم كل ما أُشيع عن اختلافات وتباعد بين الرئيس دونالد ترامب ورئيس مجلس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن عدة ملفات ساخنة في المنطقة، الا ان الوقائع الحالية تعكس وجود توافق بشأن الملف الغزاوي انطلاقًا مما سبق وتحدث عنه ترامب عن تهجير الفلسطينيين وتحول القطاع الى "ريفييرا الشرق الاوسط".
فمخطط التهجير يسير على قدم وساق بالتزامن مع حرب التجويع والسطوة المباشرة على المساعدات الانسانية بحجة عدم وقوعها بيد "حماس" وسيطرة الاحتلال على أراضٍ واسعة من القطاع ودفع السكان للنزوح والتجمع في مناطق معينة. واذ لم تكن الخطوة الاميركية مستغربة بدليل استخدام واشنطن سابقًا حق النقض "الفيتو" في عهد رئيسها السابق جو بايدن لتعطيل قرار مماثل، عول البعض على تغيّر يمكن أن يكون طرأ بعد زيارة ترامب الدول الخليجية الشهر الماضي واعتماده مقاربات مختلفة حول ايران واليمن وسوريا ودفعه نحو الحلول الديبلوماسية بعيدًا عن استمرار الحروب، وهو ما لا ينطبق على المشهد في غزة.
هذا وكان مشروع القرار الذي طُرح للتصويت حصل على موافقة جميع أعضاء مجلس الأمن الـ14 ما عدا الولايات المتحدة التي عارضته بحجة "تقويضه للجهود الدبلوماسية الجارية لحل النزاع"، كما جاء على لسان المندوبة الأميركية السفيرة دوروثي شيا التي اعتبرت أيضًا أن "هذا القرار يرسي مساواة زائفة بين إسرائيل وحماس"، مشددة على حقّ تل أبيب في "الدفاع عن نفسها". وفيما انتقدت عدة دول الموقف الاميركي "المُنحاز" و "غير العادل"، سارع السفير الاسرائيلي داني دانون الى شكر واشنطن على "وقوفها إلى جانب الحق". ويعود آخر قرار للمجلس إلى حزيران/يونيو 2024، عندما أيّد خطة أميركية لوقف إطلاق نار متعددة المراحل تنص على إطلاق سراح رهائن اسرائيليين في القطاع، ولم تتحقق هذه الهدنة إلا في كانون الثاني/يناير الثاني 2025 قبل أن تعود إسرائيل وتخرقها لاحقًا.
من جهتها، استنكرت "حماس" ما جرى واضعة اياه في اطار منح "ضوء أخضر لمجرم الحرب نتنياهو، المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، لمواصلة حرب الإبادة الوحشية ضد المدنيين الأبرياء، بما يؤكد شراكتها الكاملة في هذه الجريمة المستمرة". وبظل الفشل الذريع لمجلس الأمن في وقف حرب الابادة المستمرة منذ نحو 20 شهرًا وتعثر مفاوضات الدوحة في تقريب وجهات النظر والتوصل الى هدنة، يعيش سكان القطاع ظروفًا كارثية مع تصعيد العمليات العسكرية واشتداد القصف الذي يحصد يوميًا شهداء وجرحى تضيق بهم المستشفيات التي تعمل بالحد الأدنى من طاقتها الاستيعابية وسط شح في الأدوية والعلاجات الطبية.
ولا تتوقف الجرائم الاسرائيلية عند قطاع غزة بل تمتد الى الضفة الغربية المحتلة، التي بدورها تشهد على اكبر حملة لتهجير السكان وتزايد عنف المستوطنين بغطاء أمني وتوسيع رقعة المشاريع الاستيطانية بظل صمت عالمي وعجز دولي يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول مصداقيتها ودورها والمبادىء التي لا زالت تدعي مناصرتها او الوقوف خلفها. فالموقف العاجز للدول والمؤسسات في تصديها للعربدة الاسرائيلية يساعد نتنياهو ووزراء حكومته اليمنية المتطرفة الى الاستمرار بمخططاتهم التوسعية وارتكاب المجازر دون حسيب أو رقيب. الى ذلك، أفادت "هيئة البث الإسرائيلية" بأن الأجهزة الأمنية قررت عدم السماح للسفينة "مادلين"، بالاقتراب من قطاع غزة لتجنب خلق سابقة لكسر الحصار المفروض على القطاع. وأضافت أنه من المتوقع أن يعقد وزير الدفاع الإسرائيلي جلسة لمناقشة مسألة السفينة واتخاذ قرار بشأنها وركابها، وأن من بين السيناريوهات المُحتملة منع السفينة واعتقال النشطاء.
المشهد المتكرّر في غزة يأتي على وقع تطورات على الجبهة السورية بعد تمسك الادارة الجديدة بعملية إعادة الاعمار ورفض كل المخططات الساعية لادخال البلاد في مرحلة جديدة من القتال والنزاعات، وهو ما كان واضحًا في كلام وزير خارجيتها أسعد الشيباني الذي قال "سوريا لا تسعى للحرب، وملتزمة باتفاقية فض الاشتباك مع إسرائيل لعام 1974"، مشددًا على أن الاعتداءات الإسرائيلية تشكل "انتهاكًا لسيادة سوريا وتفتح المجال أمام الجماعات التي تهدد أمنها لزعزعة الاستقرار". وكان الجيش الإسرائيلي أعلن، أمس، أنه قصف بالمدفعية منطقة في جنوب سوريا وذلك ردًا على إطلاق قذائف من الأراضي السورية باتجاه هضبة الجولان من قبل جماعة تطلق على نفسها اسم "كتائب الشهيد محمد الضيف".
وفي حين لم تعرف الجهة الحقيقية التي تقف خلف صواريخ الجولان التي تعتبر الاولى منذ أكثر من عام، وصل المبعوث الأميركي الى سوريا، توم برّاك، اسرائيل حيث عقد لقاءات مع نتنياهو وعدد من المسؤولين الاسرائيليين. كما قام بجولة في مرتفعات الجولان برفقة وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس. وتعكس الخطوات الاميركية تغيرًا في السياسة المتبعة تجاه سوريا والتي ترافقت مع اعطاء واشنطن "الضوء الأخضر" لضم آلاف المقاتلين الأجانب الى الجيش السوري الجديد كما تزامنت مع قرارها بالانسحاب من جميع قواعدها في سوريا مع الاحتفاظ بقاعدة عسكرية واحدة من أصل ثمان، وذلك في محيط الحسكة شمال شرقي سوريا.
بدورها، أكدت تركيا أنها تعمل مع الحكومة السورية والولايات المتحدة على حل مشكلة تنفيذ اتفاق دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الجيش السوري الجديد، لافتة إلى أنه ليس لديها خطط الآن لسحب قواتها من شمال سوريا والمُقدر عددهم بنحو 20 ألف جندي تركي. اما وزير الدفاع التركي، يشار غولر، فلفت الى أن بلاده تقوم بتدريب وتقديم المشورة للقوات المسلحة السورية بهدف مساعدتها في تحسين دفاعاتها، مؤكدًا أن الأولوية المطلقة لانقرة تتمثل بالحفاظ على سلامة أراضيها ووحدتها، والقضاء على الإرهاب وأنها تدعم دمشق في هذه الجهود. ويثير الدور التركي المتعاظم في سوريا، بعد سقوط النظام السابق، مخاوف اسرائيل التي هددت بالمواجهة ما دفع أذربيجان الى الدخول على خط المفاوضات للتخفيف من حدة التصعيد. يُذكر انه عقد ومنذ شهر آذار/ مارس الماضي 3 جولات بين الجانبين الاسرائيلي والتركي دون أن يرشح الكثير عن مضمونها.
لبنانيًا، طغت زيارة وفد من "حزب الله" لرئيس الحكومة نواف سلام على الاحداث السياسية خاصة أنها أتت بعد سلسلة من الاتهامات والمواقف التي عكست الاختلافات الحادة بين الجانبين، لاسيما بعدما أعلن الاخير أن "عصر تصدير الثورة الايرانية قد انتهى". وهذا اللقاء سبقه زيارة سلام لرئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة لتبديد الملابسات والتأكيد على الموقف الرسمي الملتزم بإعادة الاعمار. ويشكل هذا الملف اولوية مطلقة للحكومة اللبنانية كما للثنائي الشيعي، أي حركة "أمل" و"حزب الله"، بسبب الدمار الهائل الذي لحق بمعظم مناطق الجنوب. وفي هذا الصدد، كشف سلام عن استضافته مؤتمرًا للمانحين سيُعقد في السراي الحكومي ببيروت في 10 حزيران/ يونيو الحالي بهدف تأمين التمويل اللازم.
هذه التحركات اللبنانية واكبتها زيارة وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي الى بيروت وحديثه عن فتح "صفحة جديدة" في العلاقات بين البلدين قائمة على "الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخرين". وتسعى طهران للحفاظ على نفوذها على الساحة اللبنانية رغم كل ما تعرضت له من انتكاسات نتيجة ما أصاب أذرعها العسكرية في المنطقة وعلى رأسهم "حزب الله" بينما تفاوض واشنطن من اجل ابرام اتفاق جديد بشأن الملف النووي. وهذه الجولات التفاوضية لا يزال يعتريها الكثير من الخلافات خاصة بعدما أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي رفض المقترح الأميركي الاخير الذي نُقل الى طهران عبر الوسيط العُماني.
ووصف خامنئي المطلب الأميركي القاضي بوقف تخصيب اليورانيوم على الاراضي الايرانية بـ"الهراء"، لكنه لم يشر إلى وقف مسار المباحثات ما يعني استمرار الفرص للتوصل الى اتفاق جديد في حال نجحت الوساطة العُمانية بردم الهوة بين الطرفين مع حديث عن امكانية تدخل موسكو في هذا الموضوع لما تملكه من علاقات. وسبق موقف المرشد الاعلى تصريحات للرئيس دونالد ترامب الذي اتهم إيران بـ"التباطؤ في اتخاذ القرار"، داعيًا اياها الى تسليم "الرد النهائي في فترة زمنية قصيرة جدا". ولا تزال مسألة تخصيب اليورانيوم نقطة خلاف رئيسية بين واشنطن وطهران، إذ تؤكد الأخيرة حقها في مواصلة التخصيب لأغراض مدنية، الأمر الذي ترفضه الولايات المتحدة بشدة.
في سياق آخر، لا يمر يوم دون اتخاذ الرئيس ترامب وادارته قرارات تثير الكثير من الجدل وآخرها توقيعه على اعلان يفرض فيه قيودًا بشكل كامل على دخول مواطني 12 دولة الى الولايات المتحدة، وهي أفغانستان وميانمار وتشاد والكونجو وغينيا الاستوائية وإريتريا وهايتي وإيران وليبيا والصومال والسودان واليمن. وبالإضافة الى الحظر، الذي يدخل حيّز التنفيذ يوم 9 حزيران/ يونيو الحالي، سيتم فرض قيود جزئية على مواطني بوروندي وكوبا ولاوس وسيراليون وتوغو وتركمانستان وفنزويلا، متعهدًا بإضافة دول أخرى إلى القائمة إذا تطلب الأمر.
ورغم كل ما يحيط المنطقة من تطورات، يبقى الوضع في غزة يتصدّر سلم اهتمامات الصحف العربية. ففي جولة اليوم رصد لأهم ما ورد:
أكدت صحيفة "الدستور" الأردنية أن "ما يتعرض له أهل غزة من قتل متعمد، وتدمير منهجي، وخراب مقصود لتعطيل الحياة، هو برنامج مدروس، منظم، وهو ما يقصده نتنياهو بالانتصار الحاسم، ومسح قطاع غزة، وجعله لا يصلح للحياة"، مستنتجة أن "تضحيات الفلسطينيين وجرائم الإسرائيليين هما عنوان الصراع اليوم، حيث لن تتوفر لأحدهما الانتصار بالضربة القاضية، ولن تتوفر الهزيمة للطرف الآخر بالضربة القاضية، بل هو عمل تراكمي سيؤدي بالضرورة إلى انتصار العدالة والحق والقيم المشروعة، والهزيمة للظلم والاحتلال والعنصرية، مهما طال الوقت، وعظمت التضحيات".
بدورها، اعتبرت صحيفة "الأهرام" المصرية أن "نتنياهو نجح فى تحويل الحرب إلى ورقة تكتيكية تخدم استمرار حكومته، ومع كل ما انطوت عليه تصوراته من أهداف استراتيجية بشأن غزة والتوسع في المنطقة والهيمنة على مفاصلها، فإن ارتدادات الحرب المفتوحة قد تكون صعبة على إسرائيل"، مشيرة الى انه (نتنياهو) "لا يملك رؤية محددة لما يريده من وراء مواصلة الحرب، والتي حولها إلى هدف في حد ذاته، يناور بها خصومه في الداخل، ويحاول من خلالها ردع أعدائه في الخارج"، على حدّ قولها.
صحيفة "القدس العربي"، لفتت الى أن "إسرائيل تحاول أن تربح من كل العوالم، فهي تقتل وتدمّر كما تريد، وتفرض الجوع على الناس، وتلجأ إلى استعمال "سلاح الخبز" في حرب الإبادة. في المقابل تعرض نفسها أمام العالم كمن تقدم "المساعدات الإنسانية للناس"، وتحمّل "حماس" مسؤولية قتل طالبي الإغاثة". وأردفت قائلة: "المجرم بحاجة للكذب للتغطية على جريمته ومنفتح على روايات عديدة، والضحية من مصلحتها كشف الحقيقة، وليس لها سوى رواية واحدة. وما تنشره بعض وسائل الإعلام عن روايتين متساويتين، في تجاهل لبنية الحقيقة حول الجريمة، هي خدمة للمجرم وخيانة لأخلاقيات المهنة".
ورأت صحيفة "البلاد" البحرينية أن "العالم يعيش حالة من الفوضى وعدم اليقين والاضطراب في غياب الوفاق الدولي، واتساع التباين بين أقطاب العالم، واشتداد الصراع على النفوذ والهيمنة". وأضافت: "بات واضحًا أن بنية النظام الذي ساد خلال الحرب الباردة وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي قد بدأ في الاضمحلال، وعادت الحروب والصراعات المسلحة لتتصدر المشهد العالمي غير عابئة بآثارها المدمرة على الإنسان في كل مكان".
من جهتها، أوردت صحيفة "اللواء" اللبنانية أنه "في لبنان سادت معادلة "الاستقرار الهش": سلاح خارج الدولة تحت عنوان "المقاومة"، مقابل تسويات داخلية تُبقي مؤسسات الدولة قائمة دون أن تكون فاعلة"، موضحة أن "هذه المعادلة سمحت بتفادي الانفجار الداخلي في أكثر من محطة، لكنها أيضاً منعت قيام دولة متماسكة ذات سيادة كاملة، وأعاقت – بشكل غير مباشر – كل محاولة جادة للنهوض الاقتصادي". وتساءلت "كيف يمكن للبنان أن يطلب دعمًا دوليًا لإعادة الإعمار، بينما يبقى قرار السلم والحرب خارج يد الحكومة؟".
أما صحيفة "النهار" اللبنانية فلخصت زيارة وزير الخارجية الايراني بنقاط ثلاث: انخراط تام لطهران في التفاوض مع واشنطن، رغبة في تجاوز مرحلة الحرب في لبنان وما ترتب عليها من تداعيات و الاستعداد للانخراط في مشروع إعادة الإعمار. وخلصت الى أن "زيارة عراقجي تبدو إيجابية في ما أعلن عنها، خصوصاً عندما تحدث عن أن الظروف في المنطقة، لا المتغيرات، تتطلب صفحة جديدة مع لبنان والمنطقة، ما يعني أن هناك إدراكًا إيرانيًا للتحولات في المنطقة"، بحسب تعبيرها.
(رصد "عروبة 22")