الأمن القومي العربي

التقارب المصري - الإيراني.. بين الضرورة والمخاطر!

"لم يدخل الايرانيون، كما الملوك في القرآن، والأمم المتحدة في السياسة، قريةً عربيةً إلّا وأفسدوها"... قد تبدو تلك الفكرة الوجيهة، صادمةً لبعض المتفائلين بنتائج التقارب الذي طرَأ مؤخّرًا على العلاقات بين مِصر وإيران. فطهران التي خسرت نفوذها التقليدي في جوارها الجغرافي وامتداداته من العراق وسوريا إلى لبنان، تسعى إلى ترميم ما تبقّى عبر رسم صورةٍ خياليةٍ لعلاقاتٍ قويةٍ مع القاهرة، التي تتحرّك على قاعدةٍ مختلفةٍ بعيدًا عن المُناكفات السياسية المعتادة.

التقارب المصري - الإيراني.. بين الضرورة والمخاطر!

خلال تواجده في القاهرة، قدّم عباس عراقجي، وزير خارجية إيران، نفسَه كسائح، بزيارة "خان الخليلي" وتناوُل "كشري أبو طارق" في وسط القاهرة. وعقب ما وصفه بلقاءاته المهمّة للغاية مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، ووزير خارجيته بدر عبد العاطي، اعتبر أنّ الديبلوماسية بين إيران ومصر دخلت مرحلة جديدة، وتحدّث عن مستوًى غير مسبوقٍ للثقة والاطمئنان في علاقات البلدين.

من المؤكّد أن عراقجي لم يقدّم الرواية الكاملة لما سمعه على عشاءٍ مع ثلاثة وزراء خارجية سابقين لمصر، التقاهم دفعةً واحدة. إذ قال مسؤول مصري، إنّه استمع في المقابل إلى شكاوى مصرية من فقدان الثقة بإيران في ظلّ حُكْمِ "الملالي"، وعبر الإشارة للتاريخ، فإنّ العلاقات بيْن البلدَيْن كانت الأفضل بعيدًا عن هذه الحقبة، وفقًا لما نقله المسؤول المصري.

أما رواية السيسي لمحادثاته مع عراقجي، فأكدت رفض توسّع دائرة الصراع، وأهمية المفاوضات الجارية بين إيران وأميركا، لكنّها كانت كاشفةً أيضًا لاهتمامه بحتميّة "عودة الملاحة إلى طبيعتها في منطقة مضيق باب المندب والبحر الأحمر".

وبحسب مراقبين، يوحي هذا الكلام برغبة القاهرة في توظيف إيران ببراغماتيةٍ واضحةٍ لكبح جماح حلفائها الحوثيين، على اعتبار أنّه أدّى لخسائر مصرية بقيمة 800 مليون دولار شهريًا بعد تراجع عائدات قناة السويس.

صراحة مبارك والولاء الشيعي

فرضت إيران نفسَها من خلال ثورات "الرّبيع العربي"، كلاعبٍ يتحكّم في أهم قضايا المنطقة، عبر تعزيز نفوذها ومدّ سطوتها على مناطق نفوذها التقليدية.

وكان الرئيس المصري الراحل حسني مبارك صريحًا فوق ما تحتمله الأمور، عندما اعتبر أنّ ولاء أغلب الشيعة في المنطقة هو لإيران وليس لدولهم، وعلى الرَّغم من الانتقادات التي تعرّض لها، تمسّك مبارك بوجهة نظره.

وكان لافتًا تجيير إيران الاطاحة بنظام مبارك لصالحها، حين نصَّب علي خامنئي، المرشد الإيراني، نفسَه وليًّا على المصريّين واعتبر أنّهم ثاروا على نظام مبارك لأنّه عميل لإسرائيل ومُطيع لأميركا، وأنّ حركة الشعب بدأت من المساجد!! وقدّم جملة نصائح للشعب والجيش!!.

"إخوان" طهران

لكن وبعيدًا عن هذا الجانب العقائدي المُلتبِس، لطالما شعرت مصر بقلقٍ متزايدٍ من تعاظُم النفوذ الإيراني في المنطقة، خصوصًا عبر علاقتها مع حركة "حماس"، الذّراع الفلسطينية لجماعة "الإخوان المسلمين"، التي تعتبرها القاهرة تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.

وعلى الرَّغم من التاريخ الطويل من التوتّر بين السُنّة والشيعة، فإنّ العلاقة الفكرية القديمة بين إيران و"الإخوان"، وتأثّر قادةٍ مثل خامنئي بفكر سيد قطب، زادت من حساسيّة الموقف المصري.

وبما أنّ دعم إيران لجماعاتٍ مثل "حماس" و"الإخوان" لا ينسجم مع الرؤية الأمنية المصرية، فإنّ أي تقارب إيراني – "إخواني" يُعدّ تهديدًا أمنيًّا للقاهرة.

وبينما واجهت مصر "المدّ الشيعي"، فإنّ شعبها ظلّ متسامحًا نسبيًا بحُكم الإرث الفاطمي ووجود المزارات الشيعية، بينما يُنظر للتحوّل الفردي للمذهب الشيعي لدى بعض الشباب كاحتجاجٍ سياسيّ أكثر منه دينيّ، ويُقابَل برفضٍ رسميّ.

وثمّة من يُرجع تقارب مصر مع إيران لأسباب تكتيكيّة (اقتصادية، طاقويّة، أو توازن إقليمي)، لكنّها لا تنوي الانزلاق إلى محورٍ سياسيّ، اذ يحتلّ الاقتصاد جانبًا كبيرًا من مبرّرات التقارب.

حينما حلّ أحمدي نجاد رئيس إيران الأسبق في القاهرة، لم تتبدّد برودة العلاقات أمام عدسات الكاميرات، فالإيديولوجيا الإسلامية المشتركة لم تكن كافيةً لتجاوز فجوة المصالح.

وما أن غادر مسجد الحسين، رافعًا علامة النصر بيده، حتّى نجا من محاولة اعتداء نفّذها سوري انتقامًا لدور إيران في بلاده.

انهار الرّهان على نجاح هذه الزيارة التلفزيونية عام 2013 بإنشاء محور مقاومة مع مِصر، اذ تجدّد العداء، مع الإطاحة بالرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي، في خطوةٍ أدانتها إيران رسميّا.

واقعيّة سياسيّة

في كلّ الأحوال، حكمت البراغماتية المِصرية الموقف، عبر رفض مقايضة علاقاتها الاستراتيجية والدعم المالي والسياسي الخليجي لها.

لا تنسى الذاكرة المصرية زيارةً سريةً قام بها قاسم سليماني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، الذي قُتل في غارةٍ أميركية على بغداد، لمصر خلال عام 2013، منتحلًا هوية سائحٍ ضمن أفواجٍ سياحيةٍ إيرانية، ووثّقها لاحقًا مُسلسل تلفزيوني.

سعت إيران عبر "الإخوان المسلمين" إلى تشكيل جيشٍ موازٍ يُشبه الحرس الثوري الإيراني، بتأسيس عددٍ ضخمٍ من شركات الأمن وتسليح عناصرها.

على رأس الأسباب النفعيّة لزيارتَيْ نجاد وعراقجي على الرَّغم من فارقهما الزمني، سعت طهران للبرهنة عن حُسْنِ نواياها للعرب من القاهرة، بعدما عانت حظرًا دوليًا وأميركيًا وحصارًا اقتصاديًا خانقًا بسبب برنامجها النووي.

فهل تعي إيران الساعية لإنهاء عزلتها الإقليمية وتعزيز سمعتها العربية، أنّ واقعية مصر لا تُلغي ذاكرتها الرسمية والشعبية!.

ضرورات الاقتصاد وراء التقارب التكتيكي مع طهران، لا تنفي حَذَرَ القاهرة التاريخي، عبر براغماتيةٍ سياسيةٍ لا أكثر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن