المشهد عشية عيد الأضحى كما يرويه مراقبون لبنانيون: شوارع بيروت وضاحيتها الجنوبية مكتظة بسيارات النازحين مجدداً. أحياء في الضاحية وغيرها تطلق ألعاباً نارية احتفالاً بالعيد. الطائرات المدنية تهبط في مطار بيروت. وفي الوقت نفسه تغير مقاتلات إسرائيلية بقنابل خارقة على أهدافها...
كان متداولاً أن الجيش الإسرائيلي أبلغ الجيش اللبناني، عبر القوة الدولية (اليونيفيل)، معلومات عن مواقع "تصنيع مسيّرات" أو مخازن أسلحة لـ "حزب إيران/ حزب الله" في الضاحية، لكنه لم يترك للجانب اللبناني وقتاً للتحقق والتصرّف، بل أنذر السكان بأنه يعدّ للإغارة على ثمانية أبنية، ثم نفّذ تهديده. تردّد أن الجيش مُنِع من تفقدّ مبنىً أو اثنين، لكن من دون تأكيد. هل كانت "المعلومات" صحيحة أم مجرد ذريعة للقصف والتنكيل بالمواطنين؟ الأكيد أن العدو الإسرائيلي لا يتصرّف كـ "دولة" موقّعة على اتفاق لوقف النار بل كطرف دائم التعطّش للقتل والتدمير... هناك لجنة مراقبة لوقف النار، غير أن قيادتها الأميركية باتت إمّا شكلية لا يعوّل عليها بشيء ولا فائدة منها، وإما خاضعة كلياً لعدوانية إسرائيل، وبالتالي صارت مهمتها إدارة استمرارية الحرب، ليس ضد "حزب إيران" فحسب بل أيضاً ضد الدولة اللبنانية.
يُجري الجانبان السوري والإسرائيلي اتصالات للتفاهم على خفض التوترات. أكثر من جهة دولية وعربية شجّعت على إقامة هذه الاتصالات في عواصم خارجية أو في المنطقة الحدودية، فيما واظبت دمشق على تأكيد أنها "لن تكون مصدر تهديد لأي طرف في المنطقة"، إذ أن تدمير إسرائيل قدراتها العسكرية يمنعها من الردّ على الاعتداءات والاستفزازات المتكررة منذ اطاحة النظام السابق. وعندما أُطلق صاروخان على منطقة مفتوحة في الجولان المحتل، وتبنى العملية تنظيم غير موجود سمّي "كتائب الشهيد محمد الضيف"، بدا ذلك كأن هناك طرفاً يقدّم ذريعة لإسرائيل كي تُفلت مقاتلاتها فوق قرى محافظة درعا وبلداتها. قد تكون "كتائب الضيف" افرازاً من فلول "حماس" أو الأجهزة الإيرانية في سوريا، وقد تكون من اختراعات "الموساد"، إذ أن عمليتها لم تحمل دعماً للقضية الفلسطينية ولا نُصرةً لسوريا بل كانت خدمةً لطرف يريد اثبات أنه لا يزال موجوداً في سوريا، أو كانت خدمةً لغرائز إسرائيل كي تمارس مزيداً من الإرهاب والترويع.
بعد أكثر من ثمانين يوماً بلا غذاء ودواء ومياه وكهرباء، وبعدما تصاعد التململ الدولي، خصوصاً الأوروبي، أمكن للجواسيس والمرتزقة الذين استقدمتهم الأجهزة الأميركية والإسرائيلية أن يعلنوا عن آلية جديدة لتوزيع المساعدات الإنسانية، بواسطة شركة وهمية سُمّيت "مؤسسة غزة الإنسانية"، وحُددت مناطق معينة لا يمكن الوصول اليها إلا بالنزوح من شمال قطاع غزّة الى جنوبه، وهذا نزوحٌ بلا عودة. سرعان ما تبيّن أن مراكز التوزيع صمّمت لتكون "مصائد للجوعى"، وهو توصيف أطلقته "حماس" وتبنّته جهات دولية مستقلّة، لأن الحصول على كرتونة مساعدة "انسانية" صار مكلفاً جداً، فعدا المهانة والإذلال، هناك الموت برصاص من يدّعي أنه يقدم "المساعدة".
وكان الخبر "الجيّد" لإسرائيل أن معظم العشرات الذي يُقتلون يومياً هم من الأطفال والشباب. أما الخبر "الجيد" الآخر فهو أن توزيع المساعدات شكّل مناسبة لإعلان "رسمي" عن وجود "ميليشيا ياسر أبو شباب" التي استخدم جيش الاحتلال وجودها في المكان لتحميلها تبعة القتل. وبعدما تحدث قادة إسرائيليون مراراً عن إيجاد هيئة فلسطينية محلية- بديلة من "حماس"- لم يجدوا سوى مهرّبين وتجار مخدرات وأصحاب سوابق في نهب المساعدات لتسليحهم وتدريبهم والاعتماد عليهم في الإشراف على "إدارة" القطاع وأمنه!
إذا كانت الإدارة الأميركية صادقة، من جهة، في دعمها الدولة اللبنانية لبسط سلطتها على أراضيها كاملة ونزع سلاح "حزب إيران"، فإنها مراوغة، من جهة أخرى، لأنها تعرف جيداً أن منحها إسرائيل "حق" العربدة العسكرية واحتلال أراضٍ لبنانية لا يتيح استعادة الدولة وتحقيق الأهداف المتوخاة، إذ أصبحت الدولة موضع ابتزاز ثلاثي: من أميركا وإسرائيل، ومن "الحزب". ومن الواضح بالنسبة الى سوريا أن الإسرائيليين لا يواجهون أي خطر أمني، بل انهم على العكس يفصحون عن نيات وخطط ترمي الى تقسيم البلد، ولما لم يجدوا استجابة إقليمية أو دولية (حتى الآن) فإنهم يديمون حال عدم الاستقرار في انتظار ظروف أكثر ملاءمة لأهدافهم.
أما في غزّة، وكذلك في الضفة الغربية، فقد ثبت بالأدلة القاطعة عجز إدارة دونالد ترامب عن إنهاء حرب منتهية أصلاً ولا تحتاج إلا الى قرار حاسم من واشنطن. لكن المفاوضات النووية التي مال اليها ترامب جعلت بنيامين نتنياهو وعصابة المتطرفين يوجّهون حروبهم للتشويش على تلك المفاوضات، سواء بالغارات على ضاحية بيروت وعلى سوريا، أو بتكثيف القتل اليومي للمدنيين في غزة. قال جان- إيف لودريان إن إسرائيل "تعيش انهياراً اخلاقياً وتوشك أن تصبح دولة منبوذة"... فهل هذا يُحرج ترامب؟ انه منشغل بخلافه مع إيلون ماسك.
(النهار اللبنانية)