لن نُعدم الأمثلة على ذلك، على الأقلّ من زاوية التبعات الجانبيّة للعديد من التطبيقات العِلمية على الإنسان (في المجال الطبّي مثلًا)، أو على الطبيعة (فيما يتعلق بلاتوازن المُناخ)، أو فيما يخص الجدل الواسع الذي أجّجته تجارب الاستنساخ البشري، وكذا الإشكالات الكبرى التي استتبعت عمليات التحويل الجيني للأعضاء والمكوّنات.
في الآن ذاته، فلن نُعدم السُّبل لترسيم التحدّيات الديموقراطية التي قد تترتّب عن هذه التطبيقات العلمية والتكنولوجية:
التحدّي الأول، ويتمثّل في خاصّية الاستقلالية التي ينشدها الجانب العِلمي في العملية التكنولوجية وينحو ناحيتها في فلسفة اشتغاله العامّة. ثمة توجّه مطّرد لجهة تجريد العملية البحثية، النظرية منها كما التطبيقية، من "إكراهات" المجتمع والثقافة والأخلاق، على اعتبار أنّ مجال الفعل في المختبر هو غير مجال فعل هذه الأخيرة.
المستوى الديموقراطي لا يستطيع إيقاف مدّ التطوّر التكنولوجي حتّى وإنْ تعارض مع القيم السائدة
العِلم وما يترتّب عنه من إبداع تكنولوجي وتطبيقات عملية وتطوير صناعي، ليس مُطالبًا وِفق هذه النظرة، بالامتثال لما يفرضه المجتمع أو تقبله الثقافة أو تستسيغه الأخلاق، بقدر ما يُراد له أن يشتغل بتجرّدٍ عن منظومتهم وقيمهم ومعاييرهم. لا يتعلّق الأمر هنا بتمرّد مستوى العِلم والتكنولوجيا على مستوى المجتمع والثقافة والأخلاق، ولكن جنوح المستوى الأول للتخلّص من قبضة الثاني، كمدخلٍ للتخلّص من معاييره القيمية والرمزية.
من له "الحق" هنا في تحديد توجّه الآخر ورسم الحدود بينهما؟ هنا يبرز دور المستوى الديموقراطي باعتباره مُحتكر آليات التّقنين والتشريع والتنظيم. لكنّه يجد نفسه موزّعًا بين توجهَيْن على شفا نقيض: فهو لا يستطيع إيقاف مدّ البحث العِلمي والتطوّر التكنولوجي حتّى وإنْ تعارضا مع القيم السائدة، ولا يستطيع ضبط إيقاع واقعٍ ثقافيّ وأخلاقيّ بطيء وفي أحيانٍ عدّةٍ متحجّر.
هيمنة "قِيم" القطاع الخاص على مصانع التطوير التكنولوجي ومصادرة نتائجها وتطبيقاتها بغرض المنافسة والرّبح
أمّا التحدّي الثاني، الذي يضع الديموقراطية على محكّ البحث العلمي والإبداع التّكنولوجي، فيكمن في هيمنة "قِيم" القطاع الخاص على مختبرات البحث العلمي ومصانع التطوير التكنولوجي، ثم مصادرة نتائجها وتطبيقاتها بغرض المنافسة والرّبح. مكمنُ الخطر هنا عظيم، لا سيما في حالة التحويلات الجينيّة غير المضمونة العواقب على الجنس البشري، ناهيك عن اصطدامها بمعايير الثقافة أو الأخلاق، أو تعارضها مع ما تعارف عليه الناس.
تبدو الآلة الديموقراطية والحالة هذه، عاجزةً عن الضبط، وإنْ تسنّى لها ذلك، فغالبًا ما يتعلّق بتأجيل التطبيقات العملية لحين اختمار الظروف. الفاعل الأكبر هنا هي تلك المجموعات الاقتصادية العابرة للحدود، صاحبة المصالح الفئوية الضيّقة، والتي يديرها أناس غير منتخبين ولا خاضعين للمحاسبة أو للمُساءلة "المواطناتية".
التحدّي الثالث، ويكمن في التوظيف المتزايد للتطورات التكنولوجية الحاصلة، بغرض التضييق على حرّيات الأفراد والجماعات.
التطورات التكنو/عِلمية أضحت هي صاحبة الكلمة الفصل وليس المستويات الديموقراطية أو القيم الأخلاقية
التلميح هنا يخصّ تحريف وظيفة الإنترنت مثلًا ليصبح أداةً استخباراتيةً، ثم توظيف البرامج المعلوماتية لتصبح وسيلة تجسّس، ثم "نمذجة بنوك المعطيات" وترتيب الأفراد والجماعات ضمنها كمجموعاتٍ بشرية، يسهل ترصّدها ومراقبتها، من دون استحضار المستوى القانوني أو الوازع الأخلاقي الذي من المفروض أن يُقَنِّنَ هذا الجانب أو يحدّ من مفعوله.
جانب الحقوق والحرّيات غير محفوظ، وجانب الحقّ في الخصوصيّة غير مُصان أيضًا، إلى درجة أنّ التطورات التكنو/عِلمية المُتسارعة قد أضحت هي صاحبة الكلمة/الفصل، وليس المستويات الديموقراطية المُنتخبة أو القيم الأخلاقية الجامعة. ألم يقل جاك إيلول يومًا "إنّنا نعيش في مجتمعاتٍ صنعتها التكنولوجيا من أجل التكنولوجيا؟".
لسائلٍ يقول: إذا كان استهداف التِّكنولوجيا للديموقراطية أمرًا قائمًا، فهل من التجنّي حقًا تحميل ذلك للتكنولوجيا، في حين أنّ الخطر الأكبر كامن في الاستعمال الذي تخضع له، لا فيها هي بحدّ ذاتها؟.
تمّ التبشير بأنّ شبكة الانترنت ستكون من مداخل الديموقراطية الإلكترونية فإذا بها تتحوّل إلى أداة تجسس
إنّه استفهام موضوعي، لكنّ نطاقه يبقى محصورًا في الاستعمال الإيجابي، في حين أنّ العديد من المستجدّات لم تُصمَّم أصلًا بغرض الاستعمال إياه. فالبحوث والتطبيقات البيو/تكنولوجية لا تستهدف محاربة نُدرة الطعام مثلًا لأغراضٍ إنسانية أو أخلاقية، بقدر ما تُستخدم الاعتبارات ذاتها لغاياتٍ تجاريةٍ واقتصاديةٍ خالصة، بدليل أنّ ملايين الأطنان من المواد الغذائية تُدمّر أو تُحفظ بالمستودعات، عندما لا تسمح تقلّبات الأسواق بترويجها، أو عندما تنخفض أسعارها بمستويات يكون تدميرها أكثر ربحيةً من ترويجها بخسارة.
يصدق القول ذاته على شبكة الإنترنت، إذ تمّ التبشير بأنّها ستكون مدخلًا من مداخل الديموقراطية الإلكترونية، وفضاءً "أثينيًّا" للمشاركة، فإذا بها تتحوّل إلى أداة تجسس وتتبّع لحلّ الأفراد والجماعات وترحالهم.
(خاص "عروبة 22")