صحافة

سقوط نتنياهو يفتح الباب لصفقة سلام شاملة في غزة

إبراهيم نوار

المشاركة
سقوط نتنياهو يفتح الباب لصفقة سلام شاملة في غزة

خسرت إسرائيل حرب غزة دبلوماسيا، لكن خروجها وإنهاء الاحتلال والحصار وحرب الإبادة لن يتحقق إلا بزيادة التكلفة العسكرية والسياسية على الدولة الصهيونية. ومهما كانت قسوة التضحيات البشرية والمادية في غزة، فإن الصمود الفلسطيني يظل هو الرقم الصعب، الذي يحول دون نجاح استراتيجية "سلام القوة".

لقد فشلت القوة الغاشمة في استعادة المحتجزين وتدمير المقاومة وإخضاع القطاع. وأصبح الخراب والدمار الذي أحدثه، ولا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة شاهدا على حرب الإبادة التي استفزت ضمير العالم، وجعلت من الدولة الصهيونية كيانا منبوذا. وفي الداخل الإسرائيلي تبدو الدولة في حرب مع نفسها، حيث تخوض الحكومة حربا ضد القضاء، كما تبدو العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسوأ ما يكون الحال منذ قيام الدولة الصهيونية، مع اتساع نطاق الاحتجاجات المعارضة لاستمرار الحرب. كما يبدو المجتمع في حال عراك محتدم مع نفسه، وسط انقسام عميق بين اليهود أنفسهم، حتى وصل الأمر إلى إشعال النيران في كنيس بواسطة يهود متطرفين، يبصقون على غيرهم من اليهود، ويرسمون صلبانا على كنيسهم، سخرية منهم.

إن الصمود الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة هو المحرك الأول الذي خلق هذا الانقسام داخل الدولة الصهيونية، وسط زيادة حدة حصار الرأي العام العالمي، وهو حصار لا يتصدره فقط غضب شعوب العالم، وطلائعها الواعية، وإنما أصبح يضم أعدادا متزايدة من حكومات كانت بالأمس تعتبر من بين داعمي تلك الدولة، تحت زعم "حق الدفاع عن النفس". الآن يدرك العالم أن الشعب الفلسطيني يعيش تحت قسوة ظلم تاريخي، وأن حلمه الذي يقاتل من أجله هو السلام، والعيش آمنا في دولة مستقلة ذات سيادة. كما يدرك العالم أن نتنياهو يمثل العقبة الرئيسية في طريق السلام. وأن إسقاط حكومته، يمكن أن يسهل عقد صفقة شاملة ناجحة لإنهاء الحرب، وتبادل الأسرى والمحتجزين، والتفاوض على صيغة لتحقيق حل الدولتين، وإقامة سلام عادل مستدام.

ومع ذلك فإن زيادة تكلفة بقاء قوات الاحتلال في غزة تتطلب المزيد من الصمود، والعمل على تلقين جيش الاحتلال درسا لا ينساه أحد، بقتل الغزاة المتوحشين وخطف البعض منهم، وتدمير آلياتهم، وتحويل الأرض التي خربوها إلى لهب يحرقهم. وقد أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها على التكيف مع احتياجات الرد على العملية العسكرية الإسرائيلية الجديدة في غزة، التي يطلقون عليها "عربات جدعون". في إطار هذا التكيف تحولت أساليب المقاومة الفلسطينية إلى ما يمكن أن نطلق عليه أسلوب "الحرب الشبحية" التي لا تكون فيها المقاومة في موقع محدد، إلا وقت تنفيذ العملية ثم تختفي.

تمارس نشاطها وتضرب في كل مكان، "تلدغ كالنحلة، وتطير كالفراشة"، إذا جاز لنا استعارة تعبير أسطورة الملاكمة الراحل محمد علي كلاي في وصفه لأسلوب ضرباته للخصم. جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي اقتحم قطاع غزة بقوة غير مسبوقة قوامها خمسة فرق تضم كل الأسلحة، مدعومة بقوة من ضباط وأفراد جهاز الأمن الإسرائيلي "الشاباك" منذ 18 مارس الماضي، يتلقى الآن ضربات المقاومة واحدة بعد الأخرى منذ ذلك التاريخ، ويواجه مقاتلين متسلحين بخبرة المقاومة الفرنسية ضد النازي، والمقاومة الفيتنامية ضد الغزو الأمريكي، والحركات الثورية في أمريكا اللاتينية، ضد حكومات الانقلابات العسكرية الفاشية.

وتنفذ المقاومة في الوقت نفسه نموذجا رائعا لما يسمى "العملية المُرَكّبة"، التي يتم خلالها استهداف العدو على مدار وقت العملية، بعد توجيه الضربة الأولى حتى إخلاء مسرح العمليات من القتلى والجرحى وسحب الآليات، كما حدث في عملية جباليا في الثاني من الشهر الحالي، التي تم خلالها الهجوم على قوة إسرائيلية مدرعة، والاشتباك معها، وأعقب ذلك قصف مروحية جاءت لإخلاء جثث القتلى ونقل المصابين، وإجبارها على الفرار.

وتكشف عمليات المقاومة في الوقت الراهن، أنها تسعى إلى توفير أقصى قدر من الحماية لرجالها، وإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف العدو المحتل، عن طريق التوسع في زرع العبوات الناسفة والمتفجرات على جانبي الطرق التي تستخدمها قوات العدو، وتفخيخ المقرات التي يتردد عليها جنود الاحتلال ثم تفجيرها عن بعد. كما لجأت المقاومة أخيرا إلى استخدام الطائرات المسيرة (الدرونز) في إلقاء المتفجرات على قوات العدو. وهي تستخدم في الوقت نفسه أساليب الالتحام القتالي من المسافة صفر، لشن الهجمات على المركبات المدرعة والدبابات.

ونتيجة لتغير أسلوب المقاومة فإن خسائر قوات العدو المحتل المعلنة رسميا- رغم أنها تقل كثيرا عن الأرقام الفعلية – قفزت إلى 8 قتلى في الأسبوع الأول فقط من الشهر الحالي (حتى ظهر يوم السبت الماضي)، مقارنة بـ3 قتلى في شهر أبريل، و7 قتلى في شهر مايو. أي أن أعداد القتلى الذين تمكنت منهم المقاومة في الأسبوع الماضي فقط تزيد على أعداد القتلى في الشهر السابق بأكمله، كما إنها أكبر عدد منذ استئناف الهجمات العسكرية على قطاع غزة في 18 مارس الماضي. ومن الملاحظ أن أعداد المصابين تصل إلى أكثر من 6 أضعاف أعداد القتلى منذ بداية الاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة في أكتوبر 2023، حيث بلغ عدد القتلى 424 قتيلا وعدد الجرحى 2700 مصاب.

وتقع أشد خسائر جيش الاحتلال حاليا في قوات سلاح المهندسين والمدرعات والقوات الخاصة (الكوماندوز) إلى جانب ضباط جهاز الأمن الداخلي (الشاباك). وتشمل عمليات المقاومة هجمات "مُرَكّبة" متعددة المهام، وعمليات تفجير عن بعد، بزرع متفجرات على جوانب الطرق، وتفخيخ مقرات يتردد عليها جنود الاحتلال، أو ربما يحاولون دخولها، مثل عملية خان يونس التي تمت يوم الجمعة الماضية. وقد بلغت قوة تأثير الانفجار الذي تعرضت له قوة الكوماندوز في عملية خان يونس، أن إسرائيل لم تستطع التعرف على جثث قتلاها إلا بعد فحص الحمض النووي للأشلاء. وقد نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 8 من الشهر الحالي عن والدة أحد قتلى هذه العملية، أن الجيش تعرف على ابنها بواسطة الحمض النووي، وأكدت أن الجثة تلاشت، وكذلك القوة التي كانت معه. وأضافت أن ابنها "تبخر من العالم"، وأنها لم تحظ حتى بالحصول على جثته. في هذه العملية نفذت المقاومة ضربتها وانسحبت بلا خسائر.

وطبقا لاستراتيجية "الحرب الشبحية" فإن المقاومة الفلسطينية لا تحتاج إلى الوجود في كل بقعة من أرض القطاع، وإنما يمكنها تركيز مجهودها الرئيسي باستخدام أعداد أقل من المقاتلين لشن عمليات نوعية ضد نقاط عسكرية إسرائيلية منتقاة على أساس معايير محددة يقررها القادة الميدانيون. في مثل هذه الحالات يتم توزيع المقاتلين في أماكن مختلفة، وإعادة تجميع جزء منهم لشن عمليات محددة، ثم الاختفاء فورا بلا أثر، بل يمكن لمقاتل واحد فقط القيام بمهمة منفردة، على غرار العملية التي قام بها أحد المقاتلين في جباليا يوم 3 من الشهر الحالي، حيث فاجأ قوة إسرائيلية وفتح النار عليها، فأردى أحد أفرادها قتيلا، وأوقع عددا من المصابين بعضهم كانت إصاباتهم حرجة، ثم لاذ بالفرار عبر طريق جانبي، ولم تعثر له القوة الإسرائيلية على أثر.

ومن المهم جدا في هذه العمليات توفر المعلومات السليمة، التي يتم على أساسها تخطيط العملية لتحقيق أقصى قدر ممكن من النجاح. إن خبرة حروب المدن وحروب التحرير الشعبية، تعلمنا أن هزيمة العدو المتفوق كما وكيفا تكون بفتح جرح في جسده، وتوسيع هذا الجرح مرة بعد مرة، وتركه ينزف وينزف حتى يخور تماما. إن التفوق الكمي والنوعي لم يكن أبدا في جانب المقاومة في غزة، وهو ما كان عليه الحال في فرنسا ضد النازي، وفي فيتنام ضد الأمريكيين، وفي أمريكا اللاتينية ضد الأنظمة العسكرية الفاشية وفي الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي.

لكن الصمود وقوة الإرادة والإقبال على التضحية كانت العوامل التي انتصرت بها المقاومة. وإنه لمن قبيل المعجزة أن تستمر المقاومة الفلسطينية قادرة على الصمود حتى اليوم، رغم نقص الإمدادات والحصار وندرة الذخيرة. ومع أن المقاومة تستخدم الذخائر الإسرائيلية التي لم تنفجر، وتقوم بتصنيع أسلحتها محليا باستخدام خردة المعادن المعاد صهرها وتشكيلها، فإن استمرار القدرة على المقاومة يمثل معجزة بكل معنى الكلمة.

إن صمود المقاومة في غزة هو أيضا الجيش الذي يحارب نتنياهو في داخل إسرائيل، ويقض مضجعه، ويجعله عاجزا عن تحقيق ما يمكن أن يدعيه نصرا يخرجه من أزمته السياسية والقضائية والعسكرية التي قد تنتهي بسقوطه ونهاية مستقبله السياسي.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن