القرار الأمريكي المفاجئ؛ بالسماح لعائلات العسكريين والدبلوماسيين بالمغادرة الطوعية من بغداد، تزامنا مع الإخلاء الجزئي للسفارة، أثار الانتباه المصحوب بحالة قلق واسع تنامت خلال ساعات. فيما كانت الدول الرئيسية في الإقليم، ترقب عملية التفاوض بقدر من التفاؤل أن هناك إرادة حقيقية لدى طرفي المباحثات، تشكلت مع وصول الإدارة الأمريكية الجديدة، التي أعلنت عزمها الوصول إلى محطة تبريد لتغيير بيئة الاحتقان الممتدة منذ أعوام على صعيد المشروع النووي الإيراني، وملحق به ـ كهدف أمريكي ـ تصحيح وتقييد، مجمل السلوك الإيراني في الإقليم وقضاياه.
الانزلاق إلى الصورة التشاؤمية، بدأ في ذلك المحادثة الهاتفية التي جمعت الرئيس الأمريكي برئيس الوزراء الإسرائيلي في 9 يونيو، فيها أقر ترامب أن إيران أرجأت المحادثات الأمريكية الإيرانية، لكنه عاد وشدد بأن قرار معارضة اللجوء لعمل عسكري مازال ساريا، فلديه نسبة يقين بأن التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران أمر ما زال ممكنا. في اليوم التالي تأكد التقدير التشاؤمي في حديث الرئيس مع صحيفة الـ"نيويورك بوست"، في قوله إنه الآن أقل ثقة من ذي قبل بشأن موافقة إيران على الأفكار الأمريكية المتعلقة بـ"تخصيب اليورانيوم".
ورغم تأكيده في ذات الحديث أن الولايات المتحدة لن تسمح بامتلاك إيران سلاحا نوويا بغض النظر عن إمكانية التوصل إلى اتفاق من عدمه، إلا أن العسكريين الأمريكيين ما زالت تقاريرهم التي رفعت إلى الرئيس وإلى مجموعة المفاوضين، تضع قضية "التخصيب" باعتبارها المعضلة المفتاحية التي يمكنها أن تقيد التطوير الإيراني للمشروع، أو السماح له بالانتقال التلقائي من الطابع السلمي إلى مربع الإنتاج العسكري.
إعلان المرشد الأعلى علي خامنئي رفضه القاطع، للمقترحات الأمريكية التي جاءت في جولة المفاوضات الخامسة الخاصة بحرمان إيران من التخصيب على أراضيها، ربما أسهم بشكل رئيسي في تعقيد البيئة التفاوضية. وسمح لإسرائيل بالعودة إلى المشهد، الذي لم تغادره عمليا منذ بداية المفاوضات، لكنها على الأقل أعطت مساحة متقدمة لضغطها المروج للخيار العسكري إلى أن يزاحم رؤية الإدارة الأمريكية، خاصة بعد أن عادت إلى الواجهة مرة أخرى القيادات العسكرية الإيرانية، لتطل برأسها هي الأخرى، وتطلق مجموعة من المواقف والتصريحات عكست درجة الحرارة العالية التي وصل المشهد له، في 11 يونيو تفقد قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي ــ الذي اغتيل فجر أمس ــ الوحدات البحرية التابعة للحرس، في مضيق هرمز والراسية على ضفاف الجزر الموجودة بالخليج العربي، وأكد جاهزية تلك الوحدات لمجابهة أي نوع من التهديدات.
بينما أعاد الإعلام الإيراني بث تصريحات رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة اللواء محمد الباقري ــ الذي تم اغتياله فجر أمس ــ التي أدلى بها في 12 مايو الماضي تتعلق بالرد الإيراني المبرمج بتعطيل الشحن التجاري الدولي في الخليج، في حال تعرضت إيران لأي هجوم يستهدف بنيتها النووية. لكن ظل التصعيد الأخطر متمثلا في تهديد المجلس الأعلى للأمن القومى في 9 يونيو، باستهداف المنشآت النووية الإسرائيلية السرية، مؤكدا امتلاك إيران معلومات استخباراتية حساسة، تمكنها من الوصول إلى تحقيق هذا الهدف، في حال أقدمت إسرائيل على مغامرة من أي نوع !
فجر 13 يونيو؛ شنت إسرائيل هجمة واسعة المدى على الداخل الإيراني، شملت الهجمات منشآت نووية ومصانع صواريخ باليستية وقادة عسكريين، وذكر الجيش الإسرائيلي في تصريحات أولية، أن هذا الهجوم بداية عملية مطولة لـ"منع إيران" من صنع سلاح نووي. أبرز الخسائر الإيرانية تمثلت في مقتل العشرات، من أهم قيادات المستوى العسكري والعلماء النوويين الإيرانيين، على رأسهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي ورئيس هيئة الأركان اللواء محمد باقري وقائد قوة الدفاع الجوي المركزية "قوات الطوارئ" اللواء غلام علي رشيد.
دفعة واحدة ثقيلة تقدر بنحو (6 علماء ذرة) تمكن الجيش الإسرائيلي من إسقاطهم، في سابقة لم تحدث من قبل طوال فترة استهداف إسرائيل للمشروع النووي وبنيته العلمية، مما يفتح الباب مرة أخرى لطرح حجم الخرق الاستخباراتي الواسع الذي مكن إسرائيل في ضربة افتتاحية، من الوصول إلى هذا الحصاد المؤثر للنخبة القيادية العسكرية والعلمية على السواء.
هذه الكوادر الحيوية تمثل العمود الفقري العسكري والتقني المرتبط بالأمن القومي الإيراني، واعتماد النهج الإسرائيلي الذي جرى استخدامه في لبنان بحق "حزب الله" أثبت نجاعته من وجهة النظر الإسرائيلية في شل قدرات الطرف المقابل، لهذا ترى إسرائيل وربما تخطط لجعل هذا الهجوم، من حلقة واحدة تمكنت خلاله من إصابة مقر رئاسة أركان الجيش الإيراني بمن فيه من القيادات، وهذا العدد المؤثر من العلماء الرواية الإسرائيلية تقدره بـ"10 علماء" وتقنيين تصفهم بالمستوى الأعلى في إدارة المشروع النووي، الجدير بالذكر أن غالبيتهم جاء عبر استهدافهم داخل أماكن إقاماتهم بطهران.
المرشد الأعلى خامنئي أعطى توجيهات سريعة بالرد العسكري الإيراني المفتوح والقاسي بحق إسرائيل، وجاء الإعلان المبكر عن بدلاء للقادة العسكريين الذين سقطوا في الضربة الافتتاحية لتؤكد جدية ذهاب طهران لهذا السيناريو. ما لا يقل عن (150 طائرة مسيرة) انطلقت فعليا من إيران تجاه أهداف إسرائيلية أولية، لكن يبقى الاستخدام الصاروخي الإيراني المتنوع هو الفيصل الحقيقي لاختبار فاعلية ومدى الرد، وسيجيب بالضرورة عن السؤال الأهم، وهو موقع الولايات المتحدة في هذا الفصل من المواجهة. الثابت أن الرواية المتداولة بالداخل الإيراني أن واشنطن ليست بعيدة عن اللجوء لهذا الخيار، في أقل مستويات التداخل الأمريكي من وجهة النظر الإيرانية هو السماح الأمريكي، بل وتوفير "شبكة أمان" لإسرائيل.
وهناك من يفسر الموقف الأمريكي، باعتباره حلقة متقدمة من عقيدة؛ ممارسة "الضغوط القصوى" بحق طهران كي تنجز ما هو مطلوب منها داخل غرف التفاوض، لكن هذه الفرضية باتت اليوم على المحك بعد هذا المتغير المؤثر، ليس على قدرات إيران بقدر ما هو موجه إلى شرعية النظام الإيراني، وهو هدف إسرائيلي لا تخفيه، وهذه إشكالية لا يملك أحد القدرة على تفكيكها حتى الآن على الأقل.
(الأهرام المصرية)