لن تتوقف تداعيات الحرب الدائرة حاليًا بين اسرائيل وايران على المدى المنظور، لان ما يجري هو نقطة تحول استراتيجية ستطال تأثيراتها منطقة الشرق الاوسط برمتها. فالمنطقة التي كانت بالاساس تعيش على وقع صفيح ساخن نتيجة ما يجري في عدد من الساحات وأبرزها اللبنانية واليمنية والفلسطينية، حيث أذرع طهران، التي تدين بالولاء لها، باتت في صراع وجودي بسبب الضربات الاسرائيلية التي قضت على معظم قدراتها العسكرية واغتالت كبار قياداتها.
وقد أتت هذه المواجهات العنيفة في توقيت شديد الحساسية وذلك مع انسداد أفق المباحثات بين واشنطن وطهران بسبب التباعد الحاد في وجهات النظر وتعنت كلا الجانبين بموقفه ودخول اسرائيل على الخط ومحاولاتها المستميتة لاقناع للادارة الاميركية بضرورة شنّ هجوم على طهران وقصف منشآتها النووية بالتزامن مع تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي اتهم النظام الايراني بزيادة وتيرة انتاج تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% ما يعني قدرتها على تصنيع سلاح نووي، في حال تم تخصيبها إلى مستوى 90%. كما التغيير الذي طرأ على موازين القوى الاقليمية والذي انعكس بشكل دراماتيكي على التمدد الايراني الذي وصل يومًا الى حد تباهيها بالسطوة على اربع عواصم عربية.
ورغم ان ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب أعلنت عن دعمها للمسار التفاوضي الديبلوماسي، الا انها تريد طهران "مكسورة" لإرغامها على تقديم التنازلات والقبول بالشروط التي وضعتها وهو ما ستظهره الايام القليلة المقبلة بظل تصعيد خطير لوتيرة العملية التي أطلقت عليها تل أبيب اسم "الأسد الصاعد" بتنسيق ودعم من الولايات المتحدة. وهذه التسمية لم تأتِ من فراغ بل تحمل الكثير من المدلولات والابعاد الدينية التي يستحضرها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو لتبرير دخوله في حرب جديدة بينما قواته تواصل دك غزة بالصواريخ وقتل سكان القطاع قرب مراكز توزيع المساعدات الانسانية نتيجة الحصار المطبق وتفشل في استعادة رهائنها المحتجزين لدى "حماس"، والذين باتوا "ثمنًا زهيدًا" لتحقيق مشروع اسرائيل الكبرى.
في المحصلة، وضعت الديبلوماسية جانبًا "على الرف" حتى اشعار أخر وأُفسح المجال للميدان بأن يكون له كلمة الفصل بعدما رفضت طهران المشاركة في الجولة السادسة من المفاوضات مع واشنطن، التي اعتبرتها شريكًا رئيسيًا لاسرائيل في حربها. وشهدت الساعات الـ24 الماضية، تطورات عنيفة إثر تبادل تل أبيب وطهران إطلاق الصواريخ وشنّ ضربات جوية مما أثار المخاوف من نشوب صراع طويل جديد في الشرق الأوسط. ووسط تلميح بالمزيد من التصعيد واغلاق مضيق هرمز، أكد ترامب أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين يبدي استعدادًا للدخول في الوساطة وتجنيب المنطقة المزيد من الخضات والمخاطر. وستنشط الآن محاولات التهدئة والدعوة للعودة الى طاولة المفاوضات لابرام اتفاق نووي جديد لم تنضج ظروفه بعد وستحدده الوقائع الجارية على الارض.
وكانت إيران شنّت موجات من الهجمات بالصواريخ النوعية والمسيّرات على مواقع في إسرائيل فجر اليوم وضربت العديد من المباني في تل أبيب وحيفا ومناطق أخرى، منها مركز بحث. وقد أدى القصف، وفق المعلومات الاسرائيلية، الى سقوط 9 قتلى و195 جريحًا، إضافة إلى وقوع دمار كبير وغير مسبوق. ونقلت وكالة "أنباء فارس"، شبه الرسمية، عن مسؤولين، بأن إيران استخدمت صواريخ عماد، قادر وخيبر في الهجوم الجديد على حيفا وتل أبيب. وعلى المقلب الأخر، هاجمت إسرائيل مستودع النفط الرئيسي في العاصمة الإيرانية، ما أدى إلى حدوث انفجارات ضخمة، كما ضربت الطائرات الحربية مواقع مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، وفق ما نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" عن مصادر إيرانية وإسرائيلية.
في المقابل قال وزير الدفاع الاسرائيلي يسرائيل كاتس، إن "طهران تحترق" بعد موجة من الضربات القوية التي دخلت يومها الثالث. ونقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مسؤول إسرائيلي اشارته الى أن "لا نهاية للحرب إلا بتفكيك برنامج إيران النووي أو جعله غير قابل للحياة". وحتى الساعة، فقد أودت هذه العملية بخسائر بشرية كبيرة، لاسيما على مستوى القيادات الرفيعة المستوى التي استهدفتها اسرائيل. هذا ولم تكن طهران تتوقع هذه الهجمات الاستباقية قبل موعد انعقاد المفاوضات، التي كانت مقررة اليوم، وهو ما أوقعها في خطأ جسيم بالحسابات، وفق العديد من المحللين الذين وصفوا ما حدث بأنه أشبه بـ"الخديعة" التي مكنت تل أبيب من القضاء على جزء كبير من قدرة إيران الدفاعية، وتدمير الرادارات والدفاعات الجوية؛ وشلّ وصولها إلى ترسانتها من الصواريخ الباليستية؛ كما قضت على شخصيات بارزة ضمن الصف الأول.
الى ذلك، تتوجه الانظار الى الساحات التي تمتلك فيها طهران نفوذ ودور، وتحديدًا اليمنية منها، بعد اطلاق جماعة الحوثي صاروخًا باتجاه إسرائيل بعد ساعات من تنفيذ القوات الجوية عملية اغتيال وصفت بـ"المهمة". وتضاربت المعلومات بشأن الشخصية المستهدفة، فيما رجحت العديد من المصادر بأن يكون رئيس هيئة الأركان العامة محمد عبد الكريم الغماري هو هدف هذه العملية. أما العراق فيقع بين نارين، وهو يحاول التزام سياسة الحياد ويرفض تورط الفصائل المحسوبة على طهران بأي مغامرات عسكرية غير محسوبة النتائج. والوضع عينه ينطبق على لبنان الذي يراقب ما يحدث عن كثب وسط دعوات رسمية واضحة لـ"حزب الله" بعدم جرّ البلاد نحو أتون الفوضى خاصة ان تداعيات الحرب الاخيرة لا تزال حاضرة في الوجدان مع استمرار الاحتلال الاسرائيلي لخمس مواقع على طول الحدود وتذرّعه بمنع الحزب من تنظيم صفوفه وتدمير مخازنه التسليحية لشنّ ضربات شبه يومية متعديًا على السيادة اللبنانية.
وما يجري من تطورات ايرانية - أميركية حرّفت الانظار عن المشهد في غزة بعد انقطاع دام عدة أيام عن العالم بسبب استهداف اسرائيل آخر خط للألياف الضوئية (فايبر أوبتك) في القطاع قبل أن تعمل الجهات المعنية على اصلاحه. ومن الطبيعي أن تتجمد المفاوضات بظل ما يجري عالميًا ما يعني المزيد من عمليات القتل والتهجير مع استمرار الحصار واغلاق المعابر منذ أكثر من 3 أشهر. وكانت مصادر طبية أفادت عن استشهاد 66 فلسطينيًا أمس السبت، بينهم 12 من منتظري المساعدات.
وازاء تفاقم الاوضاع الانسانية، تحاول "قافلة الصمود" كسر الحصار ولكنها تواجه تضييقًا سياسيًا عليها وسط رفض مصري من أن تكون هذه التحركات منطلقًا لاعمال مخلّة بالامن وتزعزع استقرار البلاد. وعليه ليس من المتوقع لهذه التحركات الشعبية الضاغطة أن تحقق اهدافها المرفوعة والمُعلن عنها بوضوح، ولكنها في الحد الادنى تسلّط الضوء على ما يجري في القطاع المنكوب من حرب إبادة وتطهير عرقي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
الحدث الايراني طغى على ما عداه من ملفات وقضايا. ففي جولة الصحف العربية الصادرة اليوم تحليلات ومقالات لما يجري نوجزها على الشكل التالي:
أشارت صحيفة "الخليج" الاماراتية الى أن الامور "تتجه إلى حرب شاملة تحرق الأخضر واليابس، إذا لم يتدخل المجتمع الدولي والإقليمي بكل قوته ويوقف هذه المعركة وما تحمله من تهديدات جدية لمصالح شعوب المنطقة، وهو ما يلقي عبئًا كبيرًا على الآلة الدبلوماسية التي تعمل بكل طاقتها على أمل أن يحالفها الحظ والنجاح"، مشددة على أن "إنهاء هذه الجولة العنيفة من الصراع مطلب عاجل لا يحتمل التأخير، وعلى دول المنطقة أن تتحد وراء هذا الاستحقاق وتدافع عنه من أجل استقرار شعوبها ورخائها".
ولفتت صحيفة "الوطن" القطرية الى أن "العدوان الإسرائيلي على إيران انتهاك صارخ لسيادتها وأمنها، وخرق واضح لقواعد ومبادئ القانون الدولي، وأخطر ما فيه هو أنه يدفع المنطقة بأسرها نحو انفجار هائل هو آخر ما تحتاجه". واضافت "إن الشيء الجوهري اليوم يكمن في ضرورة إدانة هذا الهجوم الأرعن، ورفض كل الأسباب التي ساقتها إسرائيل لتبريره، والعمل على وقفه بأي طريقة، منعًا لانفلات الأمور نحو ما لا يحمد عقباه".
صحيفة "عكاظ" السعودية، من جانبها، شددت على ان "إسرائيل كرست سرديتها بأن إيران هي الخطر الوجودي عليها، وأن مشروعها النووي يستهدف في الأساس تدميرها وإزالتها من الخارطة، وهذا غير ممكن عمليًا حتى لو كانت إيران تردد شعارات صاخبة ضد إسرائيل منذ زمن طويل". وخلصت للقول "لقد اشتعل حريق كبير في المنطقة واستمراره دون احتواء عاجل سيؤدي إلى مآلات مرعبة، ولكن كيف يمكن احتواؤه مع الانحياز المعلن لبعض الدول المؤثرة في المجتمع الدولي لإسرائيل، وفي مقدمتها الدولة الأقوى والأهم: أمريكا؟ هذا هو السؤال المقلق"، على حدّ تعبيرها.
ووفق صحيفة "الأهرام" المصرية، فإن "منطقة الشرق الأوسط تتجه إلى مستقبل مجهول بعد اشتداد حدة المواجهات العسكرية بين إسرائيل وطهران إلى حرب مفتوحة تلقي بتأثيراتها ليس على الحدود الجغرافية للدولتين، وإنما تمتد إلى الإقليم ككل"، مشددة على أنها (أي المنطقة) "لا تحتاج إلى اتساع نطاق الصراع فى الإقليم، واشتعال المزيد من كرات النار المتدحرجة بما يعزز مسار الفوضى الذي تتجه إليها المنطقة ويقلل من فرص التسوية للنزاعات الداخلية والصراعات البينية الإقليمية"، بحسب قولها.
بدورها، رأت صحيفة "الغد" الأردنية أن "اعتداء إسرائيل على إيران لا يستهدف فقط المشروع النووي الإيراني، ويريد استبدال النظام الحالي، واستعادة حكم الشاه، أو أي بديل ثانٍ داخل إيران". وتابعت "هذه الحرب ليست ثنائية إيرانية - إسرائيلية بل تعبر عن صراع اوسع في الاقليم، تتشارك فيه قوى دولية، ومن السذاجة حصر الحرب بطرفين ظاهرين فقط..فإذا توقفت الحرب، او لم تتوقف فإن المنطقة في طريقها الى وضع جديد، سيرتد على كل دول الاقليم، وما يمكن قوله هنا ان إيران امام حسبة اسقاط النظام الحالي، لن تتراجع برغم الكلف التي دفعتها، الا مقابل ثمن محدد".
ولم تذهب صحيفة "عُمان" العُمانية بعيدًا اذ اعتبرت أنه "من الواضح أن حكومة إسرائيل الحالية لا تريد السلام ولا ترغب به، بل تريد السيطرة بالقوة، وتريد بفعلتها الأخيرة هذه جرّ العالم بأسره إلى حرب لحسابها الخاص". وأردفت "لقد كومت إسرائيل قوتها العسكرية عبر افتعال مشاكل مستمرة مع الفلسطينيين المدنيين خاصة، وعبر تغذية العنف المستمر في المنطقة بما ضمن لها استمرار تدفق المساعدات العسكرية الأمريكية والغربية، لتهدئة وسواس إسرائيل القهري، وخشيتها المزعومة على أمنها".
وكتبت صحيفة "القدس العربي" "صحيح أنّ الرئيس ترامب هو الذي نقض اتفاقًا سهر على إبرامه سلفُه باراك أوباما، ولكن الصحيح المكمّل هو أنّ نظام آيات الله نقض الاتفاق على طريقته أيضًا، سواء بعدم توظيف ثماره في خدمة التنمية وحاجات الشعب الإيراني، أو في تبديد المليارات لمساندة أذرع ولاية الفقيه في لبنان وسوريا والعراق واليمن"، منبهة الى أن "الضحية الأولى للعدوان الإسرائيلي الراهن هو المواطن الإيراني، أولًا وثانيًا وعاشرًا، وهذا اعتبار أوّل جوهري، يستوجب التضامن معه".
(رصد "عروبة 22")