على الرَّغم من أنّ الإنسان استطاع أن يبتكر آلة الحاسوب، التي تتفوّق عليه في عددٍ من خصائصها العقلية الآلية، ليس أقلّها، مثلًا "سعة الذاكرة"، لتخزين كمياتٍ هائلةٍ جدًّا من المعلومات واسترجاعها في لمح البصر. ما يعني إمكانية حفظها بأمان لفتراتٍ طويلةٍ من الزمن، إذا ما رُوعيت الوسائل والظروف المُناسبة لذلك، فتبقى المعلومات كما هي من دون حدوث أي تلف أو تغيّر عليها. إلى جانب ضبط الأداء الآلي وفق التعليمات المنطقية المُبرمجة، وتنفيذها بدقّةٍ مُتناهيةٍ؛ وسرعة التنفيذ الخاطفة التي لا يستطيعها الإنسان إطلاقًا، فهي تُحسب بالزمن الحقيقي (real time)، الذي يشير إلى حدوث المعلومات والعمليات أو تقديمها في وقت وقوعها نفسه، بأقلّ ما يمكن من زمن التأخير (delay time)، فتتمّ معالجة البيانات مباشرةً فور استلامها، في أزمنة دقيقة جدًا، تقاسُ بالميكروثانية.
يكتسب النظام الذكيّ المعرفة اللازمة لأداء وظائفه من خلال تجارب سابقة وتخزين مهارات سبق اكتسابها
هذا، بالإضافة إلى إمكانية عمل الآلة لساعاتٍ طويلةٍ من دون تعب أو كلل، وغيرها من المزايا الأخرى. غير أنّ كلّ هذه الخصائص الآلية لا يمكنها التقليل من مكانةِ الإنسان وتفوّقه العقلي والسلوكي والحركي على جميع الآلات الصنعية من دون استثناء. فالإنسان، كما أسلفنا كائن موهوب بطبعه، يمتلك موهبته الطبيعية، ويوظّفها باقتدارٍ في تفاعله مع الطبيعة من حوله، متميّزًا على كائنات الكرة الأرضية بتفكيره المتنوّع: الإبداعي، والعِلمي، والرياضي، والمنطقي، والنقدي... فضلًا عن تفكيره البديهي، والعاطفي، والعميق. الأمر الذي مكّنه أخيرًا من تصنيعِ ذكائِه، وميكنتِه بتمثيله في نظام الحاسوب، فأصبح ينافسُ الإنسانَ بذكائه الاصطناعي، ويشترك معه في خصائص كثيرةٍ تختصُّ بها موهبتُه الإنسانية؛ يمكن اختصارها في 7 خصائص، على الأقل:
1 - التعلّم: وهو العملية الواسعة التي يُجريها النظام لطلب المعرفة وتحسين الأداء من خلال التجربة والبيانات، حتى يتكيّف النظام مع أوضاع وبيئات ومهامّ عملٍ جديدة، فيكتسب النظامُ الذكيّ المعرفةَ اللازمة لأداء وظائفه، والتوصّلَ إلى معرفةِ الكيْف من خلال تجاربَ سابقةٍ، وتخزينِ مهاراتٍ سبق اكتسابُها. وقد يقتصر التعلّم على مهام مُحدّدة لاحقًا، وهو ما يدخل في معنى التدريب للذّكاء الاصطناعي، كعمليةٍ أكثرَ تنظيمًا وهيكلةً، لتزويد نموذج الذكاء الاصطناعي بالبيانات لرفع قدرته على تعلّم مهمّةٍ محدّدةٍ بدقّة.
بإمكان الذكاء الاصطناعي التفاعل مع ضخامة المعارف بخزنها واسترجاعها ومعالجتها عند الطلب في لمح البصر
2 - ذاكرة قوية: وهي مكمن قوة الذكاء الاصطناعي (strong memory)، إذ بإمكانه استيعاب كميات هائلة من البيانات والمعلومات والأفكار المولّدة والمخزّنة، والتعامل مع ضخامة المعارف في شتّى مواردها الآلية، والتفاعل معها، بخزنها واسترجاعها ومعالجتها عند الطلب في لمح البصر، وحسب متطلّبات المهام والأعمال المخصّص لها.
3 - التركيز: تسليط التوجّه نحو مسائل مُحدّدة (focus) أو (concentration)؛ لإحاطتها بالمعلومات اللازمة والمطلوبة، والتي يمكن الوصول إليها في مصادرها؛ وهذا ضروري جدًّا للذكاء الاصطناعي، خصوصًا لعمليةِ تدريبِ نماذجِه، حيث يتطلّب التدريبُ الفعّالُ للذكاءِ الاصطناعي تغذيةَ بياناتِ الخوارزميّات، وتحليلَ النتائج، وتعديلَ النموذج لتحسين الدقّة والفعاليّة... إلخ.
4 - توليد الأفكار: يتأتّى لدى الذكاء الاصطناعي من خلال تركيب الأفكار الأولى أو المركّبة المُخزّنة، والتي يمكن بواسطتها التوصّلُ إلى أفكار جديدة مولََّدة (generated)، مبنيّةٍ على مقدّمات أفكارٍ في حوزته المعرفية، مثل مبادئ وقواعد معرفة، أو معلومات ومعارف مستنتجة.
الحلول هي مولّدات معرفة عملية يمكن للذكاء الاصطناعي تقديمها بعد إنتاجها واختبارها وتجربتها في مخزونه المعرفي
5 - القدرة على الاستدلال: وهي خاصّية جوهرية للذكاء الاصطناعي ضمن منهجه في التفكير الآلي، سواء باستخدامِه قدرتِه على الاستدلال المنطقي (reasoning) كعملية متعمَّدة لاستخدام المعلومات للوصول إلى نتائج دقيقة، أو قدرته على استخدام الاستدلال التجريبي (heuristics) كعمليةِ اختصاراتٍ عقليّةٍ لتسهيل الوصول إلى أحكام سريعة... لكنه قد يؤدّي إلى التحيّزات والأخطاء.
6 - تقديم الحلول (solutions): أي ما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُقدّمَه من حلولٍ للأعمال والخدمات المختلفة في شكلِ تطبيقاتٍ ذكيةٍ (applications)، أو إجراءاتٍ ومحاكاةٍ فائقة، تصدُر عن نظامه المنطقي. فالحلول هي مولّدات معرفة عملية يمكنُهُ تقديمها بعد إنتاجها واختبارها وتجربتها في مخزونه المعرفي.
الإنسان يتفوّق إبداعيًّا في عديد من خصائصه المشتركة مع الآلة الذكيّة
7 - التعبير اللغوي: يشير إلى كيفية استعمال نظام الذكاء الاصطناعي للغة البشرية ومعالجتها (linguistic expression). إنّه يشمل مجموعةً كبيرةً من التطبيقات الذكية، بدءًا من فهمِ النصِّ وتوليده إلى ترجمةِ اللغات وخلقِ محتوًى إبداعيّ مُقادٍ بالذكاءِ الاصطناعيّ... يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تنتج نصوصًا ذات مقاصد واسعة، ومتشابكة، اعتمادًا على مخزونِها اللغويّ الثريّ، وبحثِها عن مكامن التعبيرات اللغوية، في اللغات والآداب الإنسانية المختلفة، وتوظيف طرائق عديدة للاستعمال اللغوي، وفق تجاربه المحفوظة والمولّدة.
هل معنى هذا أنّ الذكاء الاصطناعيّ سيحتكر الموهبة الإنسانية المُبرمجة في تقنياته؟ وسيحلّ محلّ الإنسان في تميّزهِ الإبداعي؟ بطبيعة الحال، هذا الأمرَ مستَبعَد، وقد يستحيل... ذلك أنّ الإنسان يتفوّق إبداعيًّا في عديدٍ من خصائصه المشتركة مع الآلة الذكيّة، كما أنه يتميّز بما يخصّه وحدَهُ من ذكاءٍ طبيعيٍّ على الذكاء الاصطناعيّ الذي لا يمكن أن يكون ذكاءً طبيعيًّا ينبع من الآلة ذاتها.
(خاص "عروبة 22")