إذا كسبت تل أبيب رهاناتها على كسر إيران وتغيير مُعادلات الشرق الأوسط فإنّ الحقبة الإسرائيلية تبدأ على الفور. الحقبة الإسرائيلية تعني بالضبط: شطب القضية الفلسطينية من أي حساب، وتهميش مصر في أي قضية، وإخضاع ثروات الخليج لإرادتها المنفردة، والتغوّل على كل ما هو عربي.
خسارة إيران تُفضي مباشرةً إلى تقويض أي توازن إقليمي ونزع أي قدرة على ردع التغوّل الإسرائيلي.
الدور الإيراني تعرّض لانتكاسة موجعة بالخسائر الاستراتيجية التي لحقت بحلفائه
لم يُخْفِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أهدافه الرئيسيّة من توجيه ضربةٍ عسكريةٍ واسعةٍ إلى المنشآت النووية ومراكز القيادة والسيطرة في إيران: إنهاء مشروعَيْها النووي والصاروخي الباليستي وإسقاط النظام نفسه.
الضربة التالية: مصر، التي توصف تقليديًا في الخطاب الإسرائيلي بـ"الجائزة الكبرى".
تردّد ذلك التوصيف بإلحاحٍ ظاهرٍ عند سقوط بغداد عام 2003. إثر ذلك السقوط، تقدمت قوتان إقليميتان كبيرتان - تركيا وإيران - لملء الفراغ.
الأولى، بقوّة نموذجها في ذلك الوقت، الذي زاوج بين الإسلام والعِلمانية وحقق معدلات نموّ عالية حتى شاع في مراكز أبحاثها أنّ القرن الجديد سوف يكون تركيًّا في الشرق الأوسط، لكنّه تعرض لانتكاسةٍ كبيرةٍ إثر تبنّيها لـ"العثمانية الجديدة" وانخراطها في صراعاتٍ مفتوحةٍ مع قوى إقليمية أخرى.
والثانية، بقوّة "الشيعية السياسية" والالتزام بالقضية الفلسطينية.
كانت أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023) ذروة الدور الإيراني، لكنّه تعرّض لانتكاسةٍ موجعةٍ بالخسائر الاستراتيجية التي لحقت بحلفائه.
كان ذلك مما شجع نتنياهو على الهجوم الآن على المشروع النووي بقصد إنهاء النظام نفسه.
يحتاج العرب والإيرانيون إلى مراجعاتٍ جادّة لتصحيح العلاقات المختلّة وحتى لا تتكرّر الخطايا نفسها، التي ارتُكبت قبل وأثناء الحرب على العراق.
فقد وفّرت دول عربية عديدة غطاءً سياسيًّا للعمليات العسكرية ضد العراق، الذي كان يوصف وقتها بالبوّابة الشرقية للعالم العربي.
كانت تلك خطيئة تاريخية واستراتيجية كبرى دفع العالم العربي ثمنها مروّعًا. تبدّى في ذلك المشهد المأساوي دوران سلبيان مماثلان لإيران وتركيا.
لكل دولة رئيسية حساباتها الحرجة التي تدعوها إلى مقاومة الحقبة الإسرائيلية الوشيكة
ثمّة إدراك بدرجاتٍ مختلفةٍ في أغلب دول المنطقة يتحسّب لنتائج وتداعيات المواجهات الإسرائيلية - الإيرانية.
لم تتخلّف دولة واحدة عن إدانة العدوان الإسرائيلي خشية أن تضرب الإقليم فوضى عارمة، بتعبير الخارجية المصرية.
المعنى هنا: الاستعداد للمضي قدمًا في تطبيع العلاقات الديبلوماسية مع طهران، أيًّا ما كانت الضغوط حتى يتوفّر شيء من التوازن في الحسابات الإقليمية.
بصياغةٍ سعوديةٍ، فإنّه "اعتداء سافر على الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة".
لم يكن ذلك دفاعًا عن إيران بقدر ما كان تعبيرًا عن خشية السيناريو الأسوأ، أو أن تجد حقول نفطها ميدانًا للاشتباكات.
بدت الصياغة التركية على درجةٍ عاليةٍ من الحدّة في التنديد بالهجمات الإسرائيلية. بتعبير الرئيس رجب طيب أردوغان فـ"إنّها شنيعة واستفزاز واضح يستهدف جرّ المنطقة إلى كارثة... إنّ ما حدث يشبه سلوك قطّاع الطرق".
إنّنا أمام لحظة افتراق طرق بين تركيا وإسرائيل اللتين تردّد على نطاقٍ واسعٍ بأنّهما بصدد تقاسم النفوذ في سوريا.
ساعد أردوغان على تقويض النظام السوري السابق والدور الإيراني نفسه.
بدا متأهّبًا لبناء قوة تركية إمبراطورية في المشرق العربي، لكنه يستشعر الآن الخطر الداهم على الدولة التركية من تغوّل الدور الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
لكل دولةٍ رئيسيةٍ حساباتها الحرجة، التي تدعوها إلى مقاومة الحقبة الإسرائيلية الوشيكة، لكن من دون أن تتبدّى حتى الآن سياسات متماسكة تؤثّر في مجرى الحوادث.
في الساعات الأولى للهجوم الإسرائيلي على إيران، تبدّت المخاوف في كامل حجمها المُفزع، لكنّ الصورة اختلفت في مساء اليوم نفسه حينما أثبتت إيران قدرتها على امتصاص الهجوم وتوجيه هجوم مضاد بصواريخ باليستية موجعة ومؤثّرة.
أعادت بناء هيكلها العسكري بعد اغتيال أكثر من 20 قائدًا عسكريًا كبيرًا بينهم رئيس أركان الجيش وقائد الحرس الثوري.
كان ذلك داعيًا إلى تهدئة المخاوف، لكن تظلّ الأسئلة الكبرى ماثلة.
إلى أي مدى يمكن أن تستمرّ المواجهات العسكرية؟
إذا ما تدهور الموقف العسكري الإسرائيلي أكثر مما هو عليه الآن... هل تتدخّل الولايات المتحدة أم تكتفي بالضغط لوقف القتال؟
ما هي طاقة الطرفَيْن المتحاربَيْن على تحمّل كلفة ما يلحق بهما من خسائر في الأرواح والبنية التحتية والعسكرية؟
طاقة الإيرانيين، على الرَّغم من أوضاعهم الاقتصادية الصعبة أكبر على التحمّل من الإسرائيليين، الذين يعانون من أوضاعٍ عسكريةٍ مُنهِكةٍ في حروب على جبهات متعدّدة بلا أفق سياسي وأوضاع سياسية متهالكة في بنية مجتمع يتحكّم فيه يمين عنصري متطرّف.
ترامب يفضّل العودة بأسرع ما يمكن للمفاوضات حتى يمكنه أن يملي على إيران تنازلات جوهرية بما يشبه "وثيقة الاستسلام"
بحسابات نتنياهو فإنّه مستعد أيًّا كانت التكاليف لحربٍ مفتوحة.
وبحسابات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإنّه يفضّل العودة بأسرع ما يمكن للمفاوضات غير المباشرة مع إيران، حتى يمكنه أن يمليَ عليها تنازلات جوهرية في ملفها النووي، بخاصة منع تخصيب اليورانيوم على أراضيها وتنازلات جوهرية أخرى في مشروعها الصاروخي الباليستي وأدوارها الإقليمية بما يشبه "وثيقة الاستسلام".
السؤال هنا: إلى أي حدّ تضرّر المشروع النووي الإيراني؟
إذا لم تلحق به أضرار تعيده سنوات إلى الوراء فإنّ إيران سوف تعود للتفاوض من موقع قوّة.
الطرفان الأميركي والإيراني مستعدان للعودة للتفاوض، لكن بأي شروط؟
هنا المعضلة، التي قد تُفضي إلى تمديد الحرب حتى تتّضح الصورة الأخيرة لحقائق القوّة.
(خاص "عروبة 22")