قبل أكثر من عقدين ظهرت في الأدبيات السياسية الأمريكية عبارة "الشرق الأوسط الجديد" في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول والحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق. ثم تم إجراء تغيير طفيف فيها لتصبح على لسان كوندوليزا رايس "الشرق الأوسط الكبير" ليشمل جغرافياً إقليماً واسعاً يمتد من أفغانستان وباكستان إلى دول المغرب العربي.
وقد سبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز أن استخدم مفهوم الشرق الأوسط الجديد عنواناً لكتابه الصادر في مطلع التسعينيات، وضع فيه تصوره لسلام عربي – إسرائيلي تشكل التكنولوجيا الإسرائيلية والنفط العربي الخليجي عماديها الأساسيين. وقد شكلت عملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها حركة حماس في خريف 2023، الذريعة التي مكنت نتنياهو من إطلاق حربه الشاملة على عدة جبهات، غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا واليمن، التي نتج عنها، إلى الآن، تدمير قطاع غزة وإبادة سكانه، تدمير جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية مع القضاء على قدرات حزب الله إلى حد كبير، وسقوط نظام الأسد، وإلحاق دمار واسع بقدرات الحوثيين في اليمن.
وقد تحدث نتنياهو، قبيل سقوط نظام الأسد عن نيته في "تغيير وجه الشرق الأوسط"، الأمر الذي تحقق بطريقة ما تدميراً وتقويضاً لأنظمة وقوى سياسية وازنة من محور الممانعة والمقاومة الذي قادته إيران منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003. فهل من رابط بين "مشروع الشرق الأوسط" الجديد أو الكبير أو الواسع في صيغته القديمة و"مشروع" نتنياهو المتمثل بـ"تغيير وجه" الشرق الأوسط؟
انتشرت في أوساط يسارية وقومية في تركيا والعالم العربي نظرية مؤامرة تربط بين ثورات الربيع العربي ومشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أطلقت مفهومه بعض مراكز الأبحاث الأمريكية في ردها على هجمات الحادي عشر من أيلول، فقالت نسخة مبتذلة منها بأن إحراق التونسي محمد بو عزيزي نفسه في سوق خضار في بلدة تونسية، أواخر العام 2010، كان بتدبير مسبق من وكالة الاستخبارات الأمريكية في غرفة مغلقة في أحد الفنادق! غير أنه يمكن بنظرة موضوعية، وبعيداً عن نظريات المؤامرة، اعتبار ما أدى إليه القمع الدموي لثورات الربيع العربي على يد أنظمة تلك البلدان من خراب عام وإضعاف مناعة، نوعاً من مساهمة موضوعية مجانية في استعادة أحلام الشرق الأوسط الجديد لدى الدوائر الغربية، بما يعنيه هذا المفهوم من هندسة جديدة لتوازنات القوى في الإقليم بما يخدم مصالحها على أكمل وجه.
وهكذا اتخذت إسرائيل موقعها القيادي في هذه العملية مستثمرةً الصدمة التي أحدثتها عملية حماس في الرأي العام الإسرائيلي والغربي، فواصل نتانياهو حربه الإبادية التي بدأها في قطاع غزة، بقطع أذرع إيران الإقليمية في لبنان وسوريا واليمن، وصولاً إلى الرأس في إيران نفسها بعدما كان قد مهد للهجمات الجارية الآن بضرب منظومة الدفاع الجوي الإيرانية في شهر أكتوبر 2024. وهكذا نرى أمام أعيننا كيف يتحوّل "مشروع الشرق الأوسط الجديد" من مجرد أفكار طرحت في مراكز أبحاث أمريكية، ومر زمن طويل جعله نسياً منسياً في أقبية الأرشيف، إلى واقع يتشكل تحت دوي القنابل ودماء القتلى، بمساهمة كبيرة من مسالك أنظمة وقوى وتيارات لا ترى أبعد من أنوفها.
تبدو مشاعر الناس في منطقتنا مشتتة بين شامتين بما أصاب ويصيب المحور الإيراني بسبب التخريب الذي مارسه طوال العقدين الماضيين، وخائفين من هيمنة إقليمية قادمة لإسرائيل بنزوعها العدواني والإبادي بحق جوارها العربي. ذلك أن هذا الجوار ليس أكثر من ساحة مناطحة بين القوى الإقليمية الطامحة للهيمنة عليها، بدلاً من أن تكون قوة إقليمية موازنة. ثمة أسئلة كثيرة تطرحها الحرب الدائرة اليوم بين إسرائيل وإيران، أهمها كيف ومتى يمكنها أن تتوقف.
قبل كل شيء ينبغي الإقرار بأن الولايات المتحدة هي طرف في هذه الحرب، بل ربما وجب القول إنها الطرف بال التعريف. فترامب قد أعلنها منذ اليوم الأول حين قال: "لقد منحناهم ستين يوماً ليقرروا، ونحن الآن في اليوم الواحد والستين!" والهدف المعلن لترامب هو تركيع القيادة الإيرانية و"إنضاجها" للتوقيع على استسلام تام على طاولة "المفاوضات". أي التخلي النهائي عن برنامجها النووي. في حين يجتهد نتنياهو بإعلان هدف آخر لحربه هو الإطاحة بنظام الولي الفقيه بعد تدمير مقومات برنامجه النووي.
كلا الهدفين غير قابل للتحقيق ما لم تنخرط واشنطن مباشرة في الحرب، باستخدام أسلحة قادرة على تدمير منشآت نووية في أعماق الجبال، الأمر الذي قد يؤدي إلى سقوط النظام في حال حدوثه، إذا ترافق مع تمردات داخلية من قوى مناهضة للنظام. الطيران الإسرائيلي يسيطر إلى حد كبير على أجواء إيران، مقابل عطالة تامة للطائرات الإيرانية المتقادمة تكنولوجياً، وشلل أنظمة الدفاع الجوي لديها. بالمقابل تعتمد إيران بصورة حصرية على الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيرة. ربما يتوقف مدى الصمود الإيراني في هذا الصراع غير المتكافئ على حجم مخزونها من تلك الصواريخ.
وهذه توجع إسرائيل بإلحاق خسائر بشرية محدودة ودمار مادي في المنشآت، لكنها غير كافية لإلحاق هزيمة بإسرائيل. أما إسرائيل فلن تخشى من انقطاع الإمدادات الأمريكية بالسلاح والذخيرة حتى لو لم تنخرط واشنطن بصورة عملية في الحرب. وتبدو حكومة نتنياهو في وضع مريح سياسياً بعدما أمنت مساندة أحزاب المعارضة لحربها على إيران. إن انتهاء هذه الحرب بهزيمة إيرانية أو استسلام تام من قيادتها، سيعني نهاية النفوذ الإقليمي الإيراني، لكنه لا يمكن أن يؤدي إلى هيمنة دولة صغيرة بلا جذور راسخة كإسرائيل مهما أظهرت من قدرات تدميرية، ما لم يتم تعويمها واحتضانها من قبل محيطها العربي.
(القدس العربي)