إذا شاهدت على شاشات التلفاز، أو طالعت في صفحات الجرائد، صورًا لجموع من المواطنين، يرفعون لافتات تأييد لقادة عسكريين، أو يحملون أحد الجنود على أكتافهم وهم يرقصون ويهتفون وسط ضجيج البنادق، فأعلم أنك أمام مشهد مكرّر حرفيًا لانقلاب عسكري جديد في القارة الأفريقية.
فقبل أيام قليلة، فوجئ مواطنو القارة بهذه الصور، عندما قامت مجموعة من كبار ضباط الجيش في الجابون، بالاستيلاء على السلطة في البلاد، ووضع الرئيس علي بونغو وعائلته قيد الإقامة الجبرية، واعتقال عدد من أعضاء الحكومة السابقة بتهمة «الخيانة العظمى»، وذلك بعد وقت قصير من إعلان فوز بونغو بولاية ثالثة، في انتخابات شهدت الكثير من المخالفات والتجاوزات وغياب النزاهة وفق التقارير الدولية.
الانقلاب العسكرى في الجابون، جاء بعد أسابيع قليلة من انقلاب مماثل في النيجر أطاح بالرئيس المنتخب محمد بازوم، كما أنه يعد الثامن في غرب ووسط أفريقيا منذ 2020، حيث شهدت مالي وغينيا وبوركينا فاسو وتشاد، انقلابات مماثلة خلال السنوات الثلاث الماضية.
لم يعد السؤال الآن يتعلق بالأسباب التي تدفع الجيوش فى القارة الأفريقية للتدخل الخشن من أجل إزاحة وإقصاء نظم الحكم القائمة، والتي جاء بعضها عبر صناديق الاقتراع النزيهة؛ لأن الإجابة معروفة سلفا للجميع، وهي الجشع والطمع في السلطة ومغانمها، لكن ينبغي أن تصوب الأسئلة على الأسباب التي تدفع بعض الشعوب إلى تأييد تغيير الأنظمة القائمة بالقوة العسكرية.
هناك بالتأكيد أسباب كثيرة وراء تفشي هذه الظاهرة فى القارة السمراء، منها بقاء هذه النظم على مقاعدها عقودا طويلة، ورفضها أي تداول سلمي للسلطة، والتلاعب بالدستور للبقاء على مقعد الحكم أطول مدة ممكنة، وتجميد الحياة السياسية، وتحويلها إلى مجرد ديكور لتزيين المشهد الاستبدادي والديكتاتوري الذي تتبعه في إدارة بلادها.
فالرئيس الجابوني علي بونغو الذي أطاح به أحدث انقلاب في القارة الأفريقية، استمر على رأس السلطة منذ ١٤ عامًا، بعدما تسلم مقاليد الحكم خلفًا لوالده الذي جلس على مقعد الرئاسة منذ عام ١٩٦٧، أي أن عائلة بونغو ظلت تسيطر على الحكم في البلاد طيلة ٥٦ عامًا، من دون أن تحدث أثرًا إيجابيًا ملموسًا على حياة ومعيشة مواطنيها، ورغم أنها دولة غنية بالنفط والغاز، إلا أن ثلث عدد سكانها الذين يبلغون ٢.٣ مليون نسمة يعيشون في الفقر.
الوضع فى الجابون ليس حالة خاصة أو استثنائية، لكنه سمة لكثير من نظم الحكم فى القارة.. ففي الكاميرون المجاورة نجد أن الرئيس بول بيا يحكم البلاد منذ 1982، رغم أنه يبلغ من العمر 90 عامًا، وفي غينيا الاستوائية يحكم الرئيس تيودور أوبيانغ نغويما منذ 1979، ويبلغ من العمر 81 عاما.
كذلك ما يجعل بعض الشعوب الأفريقية، تهلل لأي انقلاب عسكري ضد السلطة القائمة، رغم قناعة الكثيرين منهم بأنهم كمن يستجير من الرمضاء بالنار، هو إقدام بعض الحكام على تحويل البلاد إلى ملكية خاصة، وإنفاق ثرواتها على محاولة شراء الشرعية والحماية من الغرب، عبر صفقات عسكرية واقتصادية تفوح منها رائحة الفساد.
أيضا انعدام الأمل في التغيير والتداول السلمي للسلطة وغياب قيم العدل والمساواة والشفافية والديمقراطية، وعدم وجود قواعد واضحة للحكم الرشيد، والافتقاد للنزاهة وغياب القانون وزيادة الاحتقان الشعبي، يفسح الطريق بلا شك أمام الجيوش للتحرك والانقضاض على السلطة، وفرض التغيير بالقوة المسلحة، تحت شعارات وطنية براقة مثل التحرّر من الهيمنة الاستعمارية الغربية، والحفاظ على ثروات ومقدرات الأوطان.
السؤال الأخير.. هل تحققت لبعض الشعوب التي فرحت وهللت للانقلابات العسكرية في القارة السمراء رغبتها في بدء مرحلة جديدة تكون مختلفة في شخوصها وسياساتها وتوجهاتها؟. في أغلب الأحيان لم يحدث أي تغيير يذكر من شأنه تحقيق تطلعات وآمال وأحلام الشعوب في غد أفضل، بل إن الكثير من التجارب التي حدث فيها التدخل الخشن لإزاحة نظم الحكم القائمة، فشلت في تقديم نموذج للحكم الرشيد، ولم تنجح في شيء سوى إعادة إنتاج للنظم التي ارتفع منسوب كراهية المواطنين لها.
("الشروق") المصرية