التعليم والسياسات التربوية

غياب المُواءمة: لماذا لا يلتقي التعليم بسوق العمل في العالم العربي؟ (2/2)

تُعَدّ مسألة مُواءمة مُخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل أحد أبرز التحدّيات التي تواجه الدول العربية في سعيها إلى تحقيق التنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي. على الرَّغم من الاستثمارات الكبيرة في قطاع التعليم، لا تزال المنطقة تعاني من فجوةٍ كبيرةٍ بين المهارات التي يكتسبها الشباب في المؤسّسات التعليمية وتلك المطلوبة في سوق العمل المُتغيّرة باستمرار. هذه الفجوة تتجلّى بوضوحٍ في ارتفاع معدّلات البطالة، ولا سيما بين الشباب وحملة الشهادات الجامعية، وتعوق قدرة الاقتصادات العربية على النموّ والتنافسية.

غياب المُواءمة: لماذا لا يلتقي التعليم بسوق العمل في العالم العربي؟ (2/2)

إدراكًا لعمق مشكلة غياب التواؤم بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وأثرها في مسيرة التنمية، لم تقف الحكومات العربية مكتوفة الأيدي، بل أطلقت العديد من المبادرات والاستراتيجيات الطموحة لمعالجة هذه الفجوة. هذه الجهود تُظهِر وعيًا متزايدًا بضرورة ربط التعليم بمتطلّبات التنمية الاقتصادية الشاملة، والتحوّل نحو اقتصادات متنوّعة ومُستدامة.

يُعتبَر إصلاح المناهج التعليمية خطوةً أساسيةً في هذا الاتجاه. تسعى العديد من الدول إلى تحديث مناهجها الدراسية لتصبح أكثر حداثةً وتوافقًا مع المهارات المطلوبة في القرن الحادي والعشرين، مع التركيز على مهارات التفكير النقدي، وحلّ المشاكل، والابتكار، والمهارات الرّقمية، واللغات الأجنبية. في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مِصر العربية، مثلًا، يُعَدّ كل من "رؤية 2030" و"رؤية 2071" و"استراتيجية التنمية المستدامة 2030" – على التوالي – برنامجًا تحوّليًا يهدف في ما يهدف إليه إلى إعادة تصميم النظام التعليمي ليكون أكثر توافقًا مع احتياجات السوق، مع تركيزٍ مكثّفٍ على المهارات العملية والابتكار والتخصّصات التقنية المطلوبة.

الشراكات الفاعلة بين القطاعَين العام والخاص حجر الزاوية في تحقيق المُواءمة بين التعليم وسوق العمل

وبموازاة إصلاح التعليم العام، تولي الحكومات اهتمامًا متزايدًا إلى تعزيز التعليم التقني والمهني. هي تدرك أنّ هذا المسار التعليمي حيوي لتلبية احتياجات الصناعات المختلفة. ويجري ذلك من خلال تحديث البنية التحتية وتوفير ورش عمل ومختبرات حديثة تتناسب مع أحدث التقنيات. كذلك، تركّز الجهود على ربط التعليم التقني بالقطاع الخاص في شكلٍ وثيقٍ، من خلال إشراك الشركات في تصميم البرامج التدريبية وتوفير فرص تدريب عملي للطلاب.

في المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية، مثلًا، تركّز الاستراتيجيات الوطنية على تنويع التعليم الثانوي وتكييفه مع مطالب التنمية الشاملة، مع إعطاء أولويةٍ إلى آليات النهوض بالتعليم التقني والمهني. ويُعتبَر تغيير الصورة النمطية السلبية تجاه التعليم التقني والمهني في المجتمعات العربية هدفًا آخر، يُعمَل على تحقيقه من خلال إبراز الفرص الوظيفيّة المُجزية التي يتيحها لخرّيجيه.

وتُعَدّ الشراكات الفاعلة بين القطاعَيْن العام والخاص حجر الزاوية في تحقيق المُواءمة. تهدف هذه الشراكات إلى تطوير برامج تدريبية مشتركة تضمن تلبية المهارات المُكتسبة لاحتياجات سوق العمل مباشرة، وتوفير فرص تدريب داخلي تمنح الطلاب الخبرة العملية اللّازمة قبل التخرج. وتمكّن هذه الشراكات القطاع الخاصّ من المشاركة في وضع المناهج، مستفيدًا من خبرته في تحديد المهارات الأكثر طلبًا. شراكاتٌ كهذه تثمر تحسينًا في تكافؤ الفرص التعليمية وزيادة معدّلات الالتحاق بالتعليم في المستويات كلها وتحسين نتائج التعلّم في العديد من البلدان العربية.

التحوّل الرقمي في التعليم يهدف إلى إعداد جيل قادر على التعامل بفاعلية مع مستقبل العمل

ولمواجهة مشكلة البطالة وتوليد فرص عمل جديدة، تشجّع الحكومات العربية في صورةٍ متزايدةٍ على ثقافة ريادة الأعمال والابتكار بين الشباب، وذلك من خلال توفير حاضنات الأعمال ومسرّعاتها لدعم الشركات الناشئة، وتقديم الدعم المالي والتدريب إلى روّاد الأعمال الشباب لمساعدتهم على تحويل أفكارهم إلى مشاريع ناجحة. وتشير دراساتٌ إلى أنّ الحكومات تدعم ريادة الأعمال في شكلٍ مباشرٍ من خلال توفير التمويل وتقليل الإجراءات البيروقراطية المعقّدة، بالإضافة إلى الاستثمار في التعليم والتدريب الخاص بريادة الأعمال.

إضافةً إلى ذلك، تولي الدول العربية اهتمامًا متزايدًا إلى التحوّل الرقمي في التعليم، من خلال دمج هذه التكنولوجيا في العملية التعليمية، بما في ذلك التعليم عن بُعد، والمنصّات التعليمية الرقمية، وتطوير المهارات الرقمية للطلاب والمعلمين. يهدف هذا التحوّل إلى إعداد جيلٍ قادرٍ على التعامل بفاعلية مع متطلّبات الاقتصاد الرقمي ومستقبل العمل الذي يزداد اعتمادًا على التقنيات الحديثة. كذلك، يسعى بعض الدول إلى بناء أنظمة معلومات تتناول سوق العمل لربط مُخرجات التعليم بالاحتياجات الفعلية للسوق، وتقديم إرشادات مهنية مبنية على بيانات موثوقة للطلاب.

على الرَّغم من الجهود الحكوميّة الكبيرة والمبادرات الطموحة، لا تزال الطريق طويلة أمام تحقيق المُواءمة الكاملة والفاعلة بين التعليم وسوق العمل في العالم العربي، ذلك أنّ مواجهة هذه المشكلة تتطلّب أكثر من مجرّد تغييرات سطحية، بل تستدعي إصلاحات بنيوية عميقة تعالج التحدّيات المستمرة.

نظرة مجتمعية سلبيّة تجاه التعليم التقني والمهني على الرّغم من أهميته المتزايدة وفرصه الوظيفية الواعدة

من أبرز هذه التحديات البيروقراطية ومقاومة التغيير داخل المؤسّسات التعليمية والحكومية، ما قد يعوق سرعة تنفيذ الإصلاحات والتكيّف مع المتغيّرات السريعة في سوق العمل. كذلك، يشكّل التمويل الكافي تحديًا آخر، فالإصلاح الشامل للتعليم وسوق العمل يتطلّب استثماراتٍ ضخمةً في البنية التحتية، وتدريب المعلمين، وتطوير المناهج، ما قد يلقي بعبءٍ كبيرٍ على ميزانيات بعض الدول. ولا يمكن إغفال النظرة المجتمعية السلبيّة تجاه التعليم التقني والمهني في بعض المجتمعات، التي لا تزال تفضّل التعليم الأكاديمي، ما يجعل من الصعب جذب الطلاب إلى مسارات التعليم التقني والمهني على الرَّغم من أهميتها المتزايدة وفرصها الوظيفية الواعدة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن