ما كان محض تحليلات وتحذيرات بات واقعًا معاشًا بعدما دخلت الولايات المتحدة الأميركية رسميًا، وبشكل مباغت، على خط الحرب الايرانيّة - الاسرائيليّة المستمرة لليوم العاشر على التوالي. فعلى الرغم من ان الرئيس دونالد ترامب كان قد أعطى طهران مهلة "محدودة" للتفاوض وتليين موقفها بشأن برنامجها النووي قبل اتخاذ قرار المشاركة من عدمه، الا ان عوامل عدة دفعته للتراجع واعطاء الضوء الاخضر لقصف 3 منشآت نووية ايرانية، وهي فوردو ونطنز وأصفهان.
وبهذا التدخل تكون المنطقة بأكملها أمام مرحلة جديدة من المواجهة المحتدمة سيكون عنوانها تقصي ردّ ايران بعدما هددّت سابقًا بأن القواعد العسكرية الاميركية في المنطقة لن تكون بمنأى عن هجماتها في حال تورط واشنطن بالحرب. ناهيك عن معرفة الخطوات التي سيتخذها وكلاء طهران حيث ستتوجه الانظار الى اليمن والعراق ولبنان رغم أن ظروفهم الداخلية ليست بأفضل حال. فهذه الساحات الثلاث، الى جانب سوريا قبل سقوط نظام بشار الأسد، بذلت من اجلها ايران عقودًا من المال والتسليح والهيمنة ولكن ما قبل 7 تشرين الاول/ أكتوبر 2023 ليس كما بعده.
فعملية "طوفان الأقصى" غيّرت المعالم وأسهمت بتقويض التغلغل الايراني لصالح التمدّد الاسرائيلي المدعوم اميركيًا بالعتاد والأسلحة والموقف السياسي أيضًا. فاذا كان الرئيس السابق جو بايدن مكّن تل أبيب من استهداف أذرع طهران في المنطقة واضعافها، فإن ترامب، الذي كان يحلم بإنهاء الحروب، دخل عمق المبارزة بإعلانه، فجر اليوم، بأن القوات الأميركية نفذت هجومًا جويًا "ناجحًا جدًا" على 3 منشآت نووية في إيران، حيث قال "إنه تم إسقاط حمولة كاملة من القنابل على الموقع النووي الأساسي في "فوردو"، مؤكدا أنه "انتهى". ولكنه رغم ذلك لم يعدم فرص المفاوضات، حيث أوحى بأن الضربات الاميركية كانت "محدودة" ونفذت الغاية منها، الا وهي القضاء على قدرات ايران لتخصيب اليورانيوم ودفعها للتوقف فورًا عن الحرب والعودة الى مباحثات "السلام".
وفي التفاصيل الميدانية، نقلت شبكة "فوكس نيوز" عن مصدر أنه تم استهداف مدخلي منشأة "فوردو" بقنبلتين، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة استخدمت 6 قنابل خارقة للتحصينات في الهجوم على هذا الموقع. وأضاف المصدر عينه أن إسرائيل دمرت منشأتي نطنز وأصفهان بنسبة 75% والضربات الأميركية بصواريخ "توما هوك" أكملت المهمة. وعليه، يمكن القول أن نتنياهو لم يخطىء حينما وصف، في وقت سابق، ترامب بأنه "أعظم صديق على الاطلاق وجدته اسرائيل في البيت الأبيض" فلولا هذا الدعم اللامحدود ما كان لرئيس الوزراء الاسرائيلي ليستمر في حرب إبادة غزة ولما كان سيستمر بانتهاكاته واعتداءاته على لبنان وسوريا والآن ايران.
وبعد الضربة سارع نتنياهو الى التباهي بما حصل واضعًا اياه في إطار "القرار الجريء الذي سيّغير التاريخ". وقال "إن القوة تأتي أولًا ثم بالسلام". والمقصود هنا أن اضعاف الدول وتجريدها من مقوماتها هو السبيل الاوحد لدفعها للقبول بالتنازل والموافقة على الشروط المعروضة عليها. ولكن السؤال يبقى هل ستقبل طهران ان تعود "مهزومة" و"مكسورة" الى طاولة المباحثات وتقبل بتجريدها مما اعتبرته على الدوام حقًا مشروعًا لها؟. وهذا الجواب ستوضحه الأيام، وربما الساعات القليلة المقبلة، خاصة ان "هدير" الوساطات لن يتوقف بل ستزداد وتيرته سعيًا وراء وضع حد لما يجري ومنع تفلت الأمور من عقالها.
من جهته، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غورتيرش الضربات الأميركية على ايران بأنها "تصعيد خطير في منطقة تواجه مخاطر، وتهديدًا مباشرًا للسلم والأمن الدوليين"، معربًا عن قلقه البالغ إزاء استخدام الولايات المتحدة للقوة ضد إيران. هذا وكانت الحرب بين الجانبين دخلت يومها العاشر وسط تصعيد خطير تمثل باستهداف اسرائيل شخصيات الصف الثاني في ايران والمقربة من المرشد علي خامنئي الى جانب استمرار قتل علماء نوويين والذين وصل عددهم، بحسب وسائل اعلام اسرائيليّة، الى 17 عالمًا يتمتعون بأدوار مهمة ورئيسية. وفي هذا السياق، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، عن قتل قائد فرع فلسطين بـ"فيلق القدس" الذراع الخارجية لـ"الحرس الثوري" الإيراني، سعيد إيزدي، في غارة جوية على شقة بمدينة قم الإيرانية. وكانت معلومات اخرى مؤكدة تداولت مقتل الحارس الشخصي للأمين العام السابق لـ"حزب الله، حسن نصرالله، في ضربة إسرائيلية في إيران قرب الحدود العراقية.
ومع تزايد رقعة الاغتيالات والتلويح المسبق بأن المرشد نفسه ليش بمنأى عن الخطط الاسرائيلية، أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" بأن خامنئي عيّن بدائل في سلسلة القيادة العسكرية، وسمى ثلاثة رجال دين كبار (لم يتم ذكر الأسماء) لخلافته في حال مقتله، وفقًا لما أفاد به ثلاثة مسؤولين إيرانيين مطلعين على خطط الطوارئ. أما الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان فتوعّد، من جانبه، إسرائيل برد "أكثر تدميرًا" على هجماتها، مشددًا على رفضه وقف البرنامج النووي في بلاده. وهذه المواقف التصعيدية حاولت الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا وبريطانيا) امتصاصها من خلال الاجتماع الذي عُقد مع وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي في جنيف، يوم الجمعة الماضي. الا أن اللقاء لم يخرج بأي شيء ملموس بظل تعنت طهران بموقفها ورفضها المساومة على حقوقها النووية من جهة والضغوط الاميركية من جهة أخرى.
تزامنًا، تتفاقم الاوضاع في غزة وتزداد سوءًا خاصة أن الحرب الدائرة بين اسرائيل وايران أدت الى جمود في المفاوضات. وتستغل تل أبيب ما يجري لاستكمال حرب الابادة والتهجير مع استمرار اغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات الانسانية والطبية اللازمة رغم كل المناشدات والتحذيرات الأممية. وأعلنت وزارة الصحة في غزة عن وصول 202 شهيد و1037 مصابًا إلى مستشفيات قطاع غزة خلال اليومين الماضيين، مما رفع حصيلة شهداء القطاع منذ بداية الحرب إلى 55 ألفًا و908 وحصيلة المصابين إلى 131 ألفًا و138. في وقت أفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) بأن 5100 طفل، تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و5 سنوات قد دخلوا المستشفيات لتلقي العلاج من سوء التغذية الحاد في أيار/مايو الماضي.
في غضون ذلك، خرجت مظاهرات عدة، أمس السبت، في عدد من العواصم الأوروبية من بينها روما وبرلين ولندن وستوكهولم تضامنُا مع الفلسطينيين، وللمطالبة بوقف حرب الإبادة في غزة حيث دعا المحتجون الى وقف مدّ اسرائيل بالسلاح والذخائر. الى ذلك، صعّدت قوات الاحتلال الاسرائيلي من عملياتها العسكرية في الضفة الغربية، حيث تواصل تنفيذ مخططات هدم جماعي للمخيمات الفلسطينية، إلى جانب الاقتحامات والاعتداءات العنيفة التي ينفذها المستوطنون بحق السكان. ويتصدر مخيم جنين عمليات الهدم بعدما شرعت اسرائيل الى هدم شبه يومي للأبنية والمساكن تاركة عشرات العائلات دون مأوى.
هموم الحرب والمخاوف من توسع رقعتها هو ما تفرد له الصحف العربية مساحات واسعة. وهنا أبرز ما ورد اليوم:
رأت صحيفة "الخليج" الاماراتية أن "السبب في استمرار وانتشار الصراع إلى مناطق كثيرة يعود بالأساس، إلى الأطماع الإسرائيلية، وطموحات إسرائيل، لأن تجعل من نفسها القوة الإقليمية الوحيدة المهيمنة في الشرق الأوسط". وقالت "رغم كل المخاطر التي تحملها السياسة الإسرائيلية المتهورة على مصالح وأمن المنطقة، إلا أن أخطر ما يمكن أن تواجهه منطقتنا الآن، وتحديداً في الخليج العربي هي المخاطر النووية".
وكتبت صحيفة "عكاظ" السعودية "في الحرب القائمة الآن يتأكد لنا أن المجتمع الدولي ومرجعياته القانونية عاجزة عن اتخاذ إجراء يمنع التسارع الخطير لهذه الحرب بين اسرائيل وايران باتجاه كارثة كبيرة، مجلس الأمن يحذّر من حرب إقليمية شاملة، لكنه غير قادر على منعها"، معتبرة أنه "لا صوت إلا صوت السلاح، المدمرات الأمريكية تبحر باتجاه المنطقة، والحديث يعلو عن القنابل الخارقة للتحصينات المنيعة تحت الأرض لتدمير المنشآت النووية المهمة كمنشأة فوردو".
صحيفة "الأهرام" المصرية، بدورها. لفتت الى أن "إيران استعدت منذ سنوات لمواجهة هجوم مشترك من أميركا وإسرائيل معًا، وتدرك أنها أقل تقدمًا في سلاح الجو، لهذا ركزت على بناء أكبر وأهم مواقعها تحت الأراضي الجبلية"، مشيرة إلى أن "أي حرب أمريكية مع إيران ستكون طويلة وصعبة ومكلفة للغاية، ويزداد تراجع الدور العسكري والاقتصادي الأمريكي عالميا، وتفقد المزيد من عناصر قوتها وهيبتها".
وفي الاطار، نبهت صحيفة "الغد" الأردنية أنه "برغم أن كل التقديرات تتركز حول الحرب مع إيران، إلا أن العراق يجب ألا يغيب عن التقييمات، كونه مستهدفا إسرائيليا"، مضيفة "هناك أطماع إسرائيلية في العراق، على مستوى الموارد، والنفط، والموقع الجغرافي، وعلينا أن نحلل الأمر على أساس احتمال تضرر إيران أكثر خلال الفترة المقبلة، وهذا سيعني أن الملف العراقي لن يغيب عن التخطيط الأميركي والإسرائيلي، حاله حال الملفين السوري واللبناني"، وفق تعبيرها.
ووجهت صحيفة "عُمان" العُمانية انتقادات الى الدول العربية التي "لا يمكن اعفاءها من مسؤولية المآلات التي تنتظر المنطقة فيما لو نجحت إسرائيل في أهدافها"، محذرة من أن "إسرائيل لا تسعى في هذه الحرب إلى مجرد نزع قدرة إيران على الردع، كما هو الخطاب الترويجي، فطموح إسرائيل لمن يفهم مشروعها ومشروع الغرب في المنطقة أكبر من ذلك بكثير وعنوانه الهيمنة الكاملة على إيران وتفكيك تأثيرها العسكري والإيديولوجي والاقتصادي".
الموضوع عينه كان محط مناقشة لدى صحيفة "الصباح" العراقية التي أوضحت أن "فرض الكيان الصهيوني الحرب الهمجية ليس فقط لاسقاط النظام في ايران، بل لزعزعة استقرار دول كثيرة في مقدمتها العراق، وإخضاع المشرق العربي كله للغطرسة الصهيونية، وفتح عصر إقليمي جديد يعربد ويهيمن فيه الكيان". وأردفت "من المؤسف أن العراق يتعرض لاختبار قاسٍ، وهو بالكاد بدأ مرحلة لم الشمل والبناء والانفتاح بقوة على محيطه العربي، وبدأت إيران صفحة جديدة من الانفتاح والمصالحة مع الدول العربية".
(رصد "عروبة 22")