الأمن الغذائي والمائي

التكامل العربي في وجه الأزمات: نحو أمن استراتيجي مشترك

تدخل منطقة الشرق الأوسط اليوم طورًا جديدًا من التهديدات الجيوسياسية، مع تصاعد الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل، واتّساع نطاقها إلى جبهاتٍ غير تقليدية تهدّد الأمن الإقليمي وتُلقي بظلالها على استقرار الأسواق العالمية للطاقة والغذاء. ومع تصاعد التهديدات بإغلاق "مضيق هرمز" أو استهداف خطوط الشحن عبره، ترتفع درجة هشاشة الاقتصادات العربية التي تعتمد في معظمها على ممرّات عبور بحرية ضيقة، وتفتقر إلى شبكات أمانٍ إنتاجيةٍ وتخزينيةٍ كافية. في مثل هذا السياق، لم يَعُدْ الحديث عن التكامل العربي المشترك ترفًا سياسيًا ولا شعارًا إيديولوجيًا، بل ضرورة حيوية تفرضها التحدّيات الراهنة والمخاطِر المُتزايدة.

التكامل العربي في وجه الأزمات: نحو أمن استراتيجي مشترك

لقد كشفت الأزمة الحالية، كما غيرها من الأزمات السابقة، عن ثغراتٍ حقيقيةٍ في المنظومة الاقتصادية العربية، وعن غياب بنيةٍ تحتيةٍ عربيةٍ موحّدةٍ تضمن تأمين السلع الحيويّة في أوقات الشدّة. ففي حين تمتلك دول عربية كبرى مثل مصر والسعودية والإمارات والجزائر والمغرب من الموارد والإمكانات ما يؤهّلها لبناء منظومةٍ إقليميةٍ متكاملةٍ للأمن الغذائي والطبّي والطاقوي، لا تزال التجارة البينية بين الدول العربية تدور حول نسبة 13.8% من إجمالي تجارتها الخارجية، بحسب تقارير حديثة للاتحاد الأوروبي. وهي نسبة متواضعة للغاية مقارنةً بتكتّلاتٍ إقليميةٍ أخرى، كالاتحاد الأوروبي الذي تتجاوز التجارة البينية فيه 60%، أو مجموعة الآسيان التي تتخطّى فيها التجارة البينية حاجز 50%.

من غير المنطقي أن تتعامل كلّ دولة عربية بشكل منفرد مع أسواق الغذاء العالمية

إنّ غياب شبكةٍ عربيةٍ موحّدةٍ للاحتياطي الاستراتيجي من السلع الأساسية، في ظلّ أزمات الغذاء العالمية وارتفاع أسعار الشحن والتأمين، يضع الأمن القومي العربي في مأزقٍ مُتجدّد. فمن غير المنطقي أن تتعامل كلّ دولة عربية بشكلٍ منفردٍ مع أسواق الغذاء العالمية، من دون تنسيقٍ في الشراء والتخزين والتوزيع، في حين أنّ التكامل في هذا المجال وحده قادر على خفض كلفة الاستيراد بنسبةٍ قد تصل إلى 15%، وفقًا لتقديرات "منظمة الفاو". وتجدر الإشارة إلى أنّ دول الخليج، على الرَّغم من امتلاكها لاحتياطيّات نقدية تكفي لتمويل وارداتها لأشهرٍ عدّة، فإنّها تعتمد على وارداتٍ غذائيةٍ تصل نسبتها إلى 85% (كما ورد في تقرير مجلس التعاون الخليجي عام 2022)، ما يجعلها في حاجةٍ مُلحّةٍ إلى تحالفاتٍ إنتاجيةٍ مع الدول العربية صاحبة المزايا الزراعية النسبية.

بعد الأزمة الغذائية العالمية (2007-2008)، وجدت دول جنوب شرق آسيا نفسَها في مواجهة تقلبات حادّة في أسعار الأرز، السلعة الأساسية لغذاء مئات الملايين من سكانها. وقد أدّت تلك الأزمة إلى إدراكٍ جماعيّ لأهمية التخزين الاستراتيجي المشترك، فكان أن أطلقت دول "رابطة آسيان"، إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية، مبادرةً غير مسبوقةٍ تمثّلت في نظام احتياطي الأرز للطوارئ المعروف باسم "APTERR". تقوم هذه الآلية على مزيجٍ من المخزون الفعلي والمخزون الافتراضي، حيث تلتزم كلّ دولة مساهِمة بتقديم كميةٍ محدّدةٍ من الأرز تُسحب عند الطوارئ، سواء كانت ناتجة عن كوارث طبيعية أو اختلالات مفاجئة في الإمداد.

دول آسيان نجحت في بناء ثقة مؤسّسية مكّنتها من التعاون في قضايا الأمن الغذائي والمائي

وقد تميّزت التجربة الآسيوية بخصائص جوهرية عدّة، على رأسها وجود إطار مؤسّسي واضح المعالم تديره سكرتارية دائمة في بانكوك، ما أتاح استجابةً سريعةً لحالات الطوارئ، كما حدث في أعقاب الفيضانات في ميانمار، وزلزال نيبال، والأعاصير التي ضربت الفيليبين. ليس هذا فحسب، بل إنّ وجود صندوق مالي مشترك مَكّن من تمويل عمليات النقل والتوزيع من دون تحميل العبء على الدول المُتضرّرة. وقد ساهم هذا النظام في تقليص تقلّبات الأسعار داخليًا، وفي تعزيز ثقة المواطنين بالحكومات في أوقات الأزمات.

في المقابل، تبدو التجربة العربية في التخزين الاستراتيجي المشترك باهتةً وغير مكتملة، على الرَّغم من أن الدّافع إليها لا يقلّ إلحاحًا عن نظيره في جنوب شرق آسيا. في عام 2009، ظهرت مبادرة شديدة الطموح شاركت فيها مصر والسعودية والسودان تهدف إلى إنشاء احتياطيّ إقليميّ للقمح، مستفيدةً من الأراضي الزراعية في السودان، ورأس المال السعودي، والطاقة التخزينية المصرية. لكن سرعان ما تلاشَت هذه المبادرة في ظلّ غياب إرادةٍ سياسيةٍ جامعة، وافتقاد آليةٍ تنفيذيةٍ تضمن الاستدامة والحوْكمة والشفافية.

لكلّ دولة عربية حساباتها وانشغالاتها وغالبًا ما يتغلّب هاجس السيادة القُطرية على ضرورات الأمن القومي الجماعي

الواقع العربي يفتقر إلى كيانٍ إقليميّ قادرٍ على إدارة مثل هذا المشروع، في حين تُترك مهمّة التخزين الاستراتيجي لكلّ دولة على حِدَة، ما يؤدي إلى تكرار الهدر وتضارب الأولويات وضعف القدرة التفاوضية مع المورّدين الدوليين.

تكمن المُفارقة في أنّ الدول العربية، على الرَّغم ممّا تملكه من فوائض مالية في بعضها، ومساحات زراعية شاسعة في بعضها الآخر، وموقع جغرافي مميّز يربط بين أهمّ الممرّات التجارية، لم تستثمر هذه المقوّمات في بناء نظام إقليمي مشترك لتأمين السلع الحيوية. على عكس دول آسيان، التي تجمعها فروقات حادة في البنية الاقتصادية والمستوى التنموي، لكنّها نجحت في بناء ثقة مؤسّسية مكّنتها من التعاون في قضايا الأمن الغذائي والمائي.

ولا يقتصر التقصير العربي في هذا المجال على غياب الآلية التنفيذية، بل يتعدّاه إلى ضعف التنسيق في السياسات الزراعية والتجارية، وانعدام الشفافية في حجم المخزونات والاستيراد، وغياب آلياتٍ للتمويل المشترك أو شراء السلع بشكل جماعيّ. وحتّى في الأزمات الكبرى التي ضربت المنطقة، كما في أزمة "كورونا"، لم يُلمَس تنسيق جماعي ذو جدوى في هذا المضمار. لكلّ دولة حساباتها وانشغالاتها، وغالبًا ما يتغلّب هاجس السيادة القُطرية على ضرورات الأمن القومي الجماعي.

إنشاء نظام احتياطي عربي للسلع الحيوية يُخفّف من هشاشة الإقليم في وجه الأزمات العالمية

التجربة العربية، إذن، تُعاني من فجْوةٍ مزدوجة: في الإرادة وفي القدرة. وليس من سبيل إلى سدّ هذه الفجوة إلّا بتبنّي منظور استراتيجي يُعيد تعريف الأمن الغذائي باعتباره مسؤوليةً جماعيةً لا يمكن أن تُترك للمصادفة أو للمبادرات الفردية. ومن شأن إنشاء نظام احتياطي عربي للسلع الحيوية، بمشاركةٍ فعليةٍ من الدول القادرة على التخزين والإنتاج والتمويل، أن يُخفّف من هشاشة الإقليم في وجه الأزمات العالمية المتوالية.

إنّ الفرصة لا تزال سانحةً أمام الدول العربية لبناء منظومةٍ إقليميةٍ ذكيةٍ لإدارة الأزمات، تقوم على التخطيط الاستباقي لا على ردود الأفعال. يمكن أن يتحقّق ذلك عبر تأسيس صندوقٍ عربيّ مشتركٍ، يموّل مشروعات البنية التحتية للتخزين والنقل والمناولة، ويوجّه الاستثمارات نحو بناء سلاسل إنتاج عربية مكتملة، لا تكتفي بالتصنيع المحلّي فحسب، بل تتبادل مخرجاتها بين الدول الشريكة ضمن اتفاقيّات طويلة الأجل. ولا يقلّ أهميةً عن ذلك تطوير نظام معلومات عربي موحّد، يرصد في الزمن الحقيقي مستويات المخزون، وحركة الإمداد، وتوزيع المخاطِر، بما يتيح اتخاذ قرارات دقيقة في وقت قياسي.. وللحديث بقية بكل تأكيد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن