اقتصاد ومال

العملة ودور الاقتصاد

تُمثّل العلاقة بين العملة ودور الاقتصاد جدليّةً أساسيّةً في المجالات المالية والنقدية، إذ إنّ ارتفاع سعر الدولار مقابل العملة الأوروبية المشتركة اليورو والعملات الأجنبية الأخرى يعني أنّ المزيد من رأس المال يتدفّق إلى أميركا وبالعكس. ومن المرجّح أن يؤدّيَ ارتفاع أسعار الفائدة لفترةٍ أطول في أميركا إلى إعطاء الدولار دفعة. ويُبيّن الدولار قوةً متواضعةً هذا العام 2025 في مقابل اليورو فضلًا عن الين واليوان والعملات العالمية الأخرى.

العملة ودور الاقتصاد

تعكس قيمة العملات النسبيّة التدفّق العالمي للأموال، ويتناقض الأداء القوي للدولار في بداية عام 2024 مع العام الماضي 2023، عندما بدا أنّ أسعار الفائدة بلغت ذروتها في أميركا. ولكنّها كانت لا تزال ترتفع في بلدانٍ أخرى، حيث تدفّقت المزيد من الأموال من أميركا، مما أدّى إلى انخفاضٍ معتدلٍ في قيمة الدولار مقابل اليورو. وربما تحوّل المدّ، على الأقل مؤقتًا، لصالح الدولار الأقوى، ويشير إلى أنّ الأسواق توقّعت أن يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي بتخفيض سعر الفائدة المُستهدف على الأموال الفيدرالية في أوائل عام 2024، ولكن يبدو أنّ هذا الجدول الزمني قد تأخّر.

تراجع العملة يؤدي إلى خلق فرص عمل في القطاعات التصديرية إلّا أنّه يُثقل كاهل القطاعات المُعتمِدة على الواردات

إنّ هذه التصرّفات تؤدّي إلى اختلالات في النظام المالي العالمي، عبر الخلل في المنافسة التجارية، وتفاقم الفوائض أو العجوزات في موازين المدفوعات، إضافةً إلى ردود فعلٍ غير محسوبة، مثل فرض الرسوم الجمركية أو تطبيق قيود تجارية، ما يُعمّق التوتّرات الاقتصادية والسياسية. وقد حذّر "صندوق النقد الدولي" من هذه السياسات، مع التشديد على وجوب أن تلتزم الدول الأعضاء بتجنّب التلاعب بأسعار الصرف، بهدف منع تعديل فعّال في ميزان المدفوعات، أو لكسب ميزةٍ تنافسيةٍ غير عادلةٍ على حساب الدول الأعضاء الأخرى.

ويؤدّي تراجع العملة إلى خلق فرص عملٍ جديدةٍ في القطاعات التصديرية نتيجة زيادة الطلب على المُنتجات المحلّية، إلّا أنّ هذه السياسة تُثقل كاهل القطاعات المُعتمِدة على الواردات، التي تعاني ارتفاع التكاليف، ما قد يؤدّي إلى تراجع الإنتاج وتفاقم البطالة. في المقابل، تعاني الدول المُستورِدة من السلع الرخيصة تراجعًا صناعيًا وبطالةً هيكلية، كما يؤدي تراجع العملة إلى ارتفاع أسعار الواردات، ما يرفع التضخّم، ويقيّد قدرة البنوك المركزية على خفض أسعار الفائدة أو اعتماد سياساتٍ توسّعية.

لقد تبنّت الإدارة الأميركية الجديدة سياسةً أكثر صرامةً تجاه التلاعب بالعملة، على اعتبار أنها عامل رئيسي في اتساع العجز التجاري وفقدان الوظائف، وعلى اعتبار أنّ إدارتها ستستخدم كل الأدوات الممكنة، من ضمنها سلطاتها الجمركية، للتصدّي للتلاعب، إذ ترى أميركا أنّ تصرّف بعض الشركاء بأسعار صرف عملاتهم، أضرّ بالصناعة الأميركية، وأضعف الاقتصاد الوطني، وخلق اختلالاتٍ في سلاسل التوريد لأميركا وغيرها من الدول.

وفي التقرير نصف السنوي بعنوان "سياسات الاقتصاد الكلّي والصرف الأجنبي للشركاء التجاريين الرئيسيين لأميركا"، لم تجد وزارة الخزانة دليلًا قاطعًا على تلاعب أي شريك رئيسي بالعملة، ومع ذلك، أُدرجت إيرلندا وسويسرا على قائمة المراقبة بعد تجاوزهما اثنَيْن من ثلاثة معايير، وتدخل صافٍ مستمرٍّ في سوق الصرف الأجنبي في اتجاهٍ واحد. وضمّت قائمة المراقبة في التقرير كلًّا من الصين، واليابان، وكوريا، وتايوان، وسنغافورة، وفيتنام وألمانيا إلى جانب إيرلندا وسويسرا. ووجّه التقرير انتقاداتٍ حادةً للصين بسبب غياب الشفافية في إدارة سعر صرف اليوان، والتدخّلات غير المُعلنة عبر البنوك المملوكة للدولة، إذ يأتي هذا في ظل مساعي أميركا لتجنّب حربٍ تجاريةٍ شاملةٍ مع الصين.

وفي المجالات المالية والنقدية، تعتمد الصين وغيرها من الدول المتقدّمة، على أدواتٍ غير تقليديةٍ في إدارة سعر صرف اليوان، تشمل تحديد السعر المركزي يوميًا، السماح بتداوله ضمن نطاق ±2%، وتوجيه البنوك الحكوميّة للتدخل نيابةً عن البنك المركزي، والتأثير غير المباشر في أسعار الفائدة خارج الصين، وفرض قيودٍ صارمةٍ على تحويل العملات الأجنبية من قبل الشركات الحكومية. وتُعقّد هذه السياسات بشكلٍ كبيرٍ مهمّة تتبّع حجم التدخلات الفعلية في السوق وتقييم مدى تأثيرها الحقيقي، وهو ما تُعدّه واشنطن مصدر قلق، وترى الإدارة الأميركية أنّ هذا الغموض المتعمّد في السياسة النقدية يُمثل تحدّيًا للاستقرار الاقتصادي العالمي، لا سيما في ظلّ ارتفاع فائض الصين التجاري واستمرار الفجوة في العلاقة الاقتصادية الثنائية.

الصين تستخدم إحدى أقوى أدواتها الاقتصادية غير التقليدية من خلال التحكّم في سعر صرف اليوان

في الختام، وعلى الرَّغم من أنّ التلاعب بالعملة ممكن أن يُوَفِّرَ مكاسب قصيرة الأجل للدولة التي تمارسه، فإنّ آثاره السلبية على النظام الاقتصادي العالمي، تجعله سلوكًا خطيرًا وغير قابلٍ للاستدامة، فمثل هذه السياسات تُفضي غالبًا إلى تصعيد التوتّرات التجارية، واندلاع حروبٍ اقتصادية، وتقويض الاستقرار المالي، ما يفرض الحاجة الماسّة إلى تكثيف التنسيق والتعاون الدولي لضمان بيئةٍ تنافسيةٍ عادلةٍ واستقرارٍ اقتصاديّ شامل. ومع دخول سياسة أميركا أوّلًا مرحلةً أكثر تشدّدًا، تتّجه الأنظار مجدّدًا نحو الصين، التي ما زالت، على الرَّغم من التحذيرات المتكرّرة، تملك وتستخدم إحدى أقوى أدواتها الاقتصادية غير التقليدية، من خلال التحكّم في سعر صرف اليوان.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن