لقد ظهر جليًّا من سياق الصدام العنيف الذي جرى بين الكيان الصهيوني وإيران، حقيقة ألّا شيء يُبقي على هذا الكيان الكريه قائمًا، سوى تلقّيه كلّ هذا الدعم الهائل واللّامحدود من الولايات المتحدة الأميركية بوصفها زعيمةً للإمبريالية الغربيّة.
الحقيقة السابقة، على أهمّيتها والضرورة الحيويّة لاستعادتها جليّة واضحة في الوعي العربي عمومًا ووعي نُخب الحكم خصوصًا، تظلّ في موقع الحقيقة الأم، لكنّها ليست الوحيدة التي يتنبّأ بها سياق المعركة بين إيران والكيان الصهيوني، وإنّما تُصاحبها سلةٌ أخرى من الحقائق والدروس الخطيرة على الصُعد الاستراتيجية والسياسية والعسكرية كافّة... هذه الحقائق خليقٌ بنُظم الحكم العربيّة أن تدركها جيدًا وتضعها ضمن أهمّ وأعلى واجباتها وفي قمّة أولويّاتها في سبيل تحقيق أمنها الوطني.
الموضوع النووي صار يرتدي أهمية قصوى ويتقدّم على سلّم الأولويّات
ضمن زحام هذه الحقائق والدروس، تبرز مسألتَا السلاح النووي والصاروخي، فإذا كان هذا الأخير (الصواريخ) يبدو أنّه يُغني عن أيّ شرح، فإنّ مسألة المشروع النووي بالذّات، تلك التي اتّخذها العدو الصهيوني مجرّد ذريعةٍ (من دون أيّ دليل أو أيّ إشارة تَشِي بعسكرته) لضرب إيران بدعمٍ أميركيّ كاملٍ ارتقى إلى مستوى المشاركة الفعلية المباشرة، وبما تثيره هذه المسألة من صعوباتٍ وإشكاليّاتٍ ودعاياتٍ، أغلبها سطحيّ جدًا وفارغ تمامًا.
ابتداءً، فإنّ المشاريع النووية عمومًا، ولو كانت سلميةً، هي ضرورةٌ حيويةٌ تفرضها تحدّيات العصر، والكثير من بلدان أمّتنا تأخرت كثيرًا، بل كثيرًا جدًا في السير على طريق بناء مشروعاتٍ نوويةٍ لأغراضٍ سلميّة. أمّا عن الأغراض العسكرية النووية فإنّنا نكاد نكون في هذا الأمر، تقريبًا، نعيش خارج الكوكب كلّه، على الرَّغم من أنّ الأمّة يتهدّدها عدو عنصري وعدواني متوحّش، ومسلّح حتى الأسنان أيضًا بكلّ وأحدث أدوات الفتك والدمار الأميركية، بما في ذلك امتلاكه قنابل نووية يتراوح عددها ما بين 150 إلى 300 قنبلة!.
إذن، الموضوع النووي عمومًا لم يَعُد على ما تُنبئنا التطورات الجارية حاليًا في الإقليم، مجرّد خيار ضمن خيارات، وأقصدُ هنا الأقطار العربية الكبيرة والمُهمّة (مصر، طبعًا، في مقدّمة هذه الأقطار) لقد صار هذا الموضوع يرتدي الآن أهميةً قصوى ويتقدّم على سلّم الأولويّات ليتبوّأ أعلى درجاته.
التوسّل بمنجزات العلم الحديث بما فيها تطويع الطاقة الذريّة أمر مرهون بما يملكه المجتمع من أسباب النّهوض والتقدّم
هنا لا بدّ من الإفصاح صراحةً عمّا اكتنف شعار "المشروع النووي العربي" بالذّات على مدى العقود الماضية، والأجواء "المهرجانيّة" التي صاحبته من سذاجاتٍ كوميديةٍ تُحرّض على البكاء.
أعود فأقول إنّه ربما لا يوجد عنوان توفّرت له القدرة على استحضار أغلب عناصر ومكوّنات الحالة المُزرية للوضع العربي الرّاهن أكثر من عنوان "الحُلم النووي" للعرب، إذ لا مفرّ من الاعتراف بأنّ الملف الذي يحمل هذا المسمّى صار مُتخمًا بقدرٍ مُدهشٍ من الالتباسات والخلط العشوائي بين الحقائق وأوهام المُحبطين، وبين الأحلام والإمكانات الحقيقية لتحقيقها. يتّصل بذلك أنّ هذا الملف، على خطورته وجدّيته، لم يَكُنْ طوال الوقت بمنأى عن نوعٍ من الخفّة التي تُلامس كثيرًا حدود التهريج، خصوصًا حينما اتخذته وما زالت بعض النُّظُم العربية موضوعًا للمُزايدة والدعاية المُبتذلة ما صنع حول الموضوع وعيًا زائفًا ومشوّشًا تُرِكَ ليستشريَ ويسكن عقول الملايين من البسطاء، بل وقطاعٍ واسعٍ من النّخبة السياسية.
إنّ هذا الوعي لا يستطيع إدراك حقيقة أنّ التوسّل بمنجزات العلم الحديث، بما فيها تطويع الطاقة الذريّة لخدمة أهداف تطوّر ورفاه المجتمع أوّلًا، ثم صيانة أمنه وردع أعدائه من بعد ذلك، هو أمر مرهون حتمًا بما يملكه هذا المجتمع من أسباب النّهوض والتقدّم على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعلمية كافّة، وعليه فإنّ الطموح إلى استيراد جزيرةٍ نوويةٍ "سابقة التجهيز" تسبح وحيدةً في بحرٍ زاخرٍ بمظاهر التخلّف والبؤس والتأخّر هو في أفضل الأحوال ليس إلّا نوعًا من التفكير الخرافي لا عائد من ورائه سوى تكريس فقدان القدرة (العقليّة على الأقلّ) وتبديد الإمكانات الواقعيّة في طلب المستحيل.
إنّ شيوع هذا الوعي المُزيَّف حول الموضوع النووي تظهر له بين الحين والآخر تجلّيات مفرطة في لا معقوليتها، منها على سبيل المثال شعارات جرى إطلاقها في أجواء احتفالية ممجوجة، من نوع "القنبلة النووية الإسلامية" و"القنبلة النووية العالمثالثيّة". وهذا الأوّل حقّق رواجًا كاسحًا مع نجاح باكستان في تفجير قنبلتها النووية الأولى نهاية القرن الماضي، لكنّه خَفَتَ بمرور الزمن عندما لم تظهر أي علامة على أنّ مجرّد نجاح بلدٍ مسلمٍ في حيازة سلاح ذرّي يُمكن أن يُضيفَ شيئًا إلى رصيد القوّة العربية، ومع ذلك عاد هذا الشعار نفسه ليكتسب زخمًا جديدًا في ظلّ الضجيج الحالي حول البرنامج النووي الإيراني.
شعارات ساذجة تفترض أنّ القنبلة النووية لها "دين" تنحاز لمُعتنقيه أو لها انحياز إيديولوجي تُناصر من يعتنقه
وأختم بحكمةٍ شهيرةٍ يتداولها المصريون، تختصر معنى كلّ الكلام السابق بشأن لامعقوليّة تعامل الكثير من العرب مع الملف النووي من خلال شعاراتٍ ساذجةٍ تفترض أنّ القنبلة النووية لها "دين" تنحاز لمُعتنقيه، أو لها انحياز إيديولوجي تُناصر من يعتنقه، فأمّا الحكمة فتقول مستنكرةً "الصلعاء تتباهى بشعر بنت أختها"، والمعنى أنّه مهما كان جمال وفتنة شعر بنت الأخت فإنّ الخالة ليس بمقدورها أن تستفيد من هذا الشعر، وجماله لا يعوّضها أبدًا عن فقدان شعرها هي.
فإذا كان هذا هو حال الصلعاء التي تتمتّع بنت أختها بشعرٍ وفيرٍ وجميل، فماذا يكون حالها لو أنّ شعر قريبتها ليس جميلًا ولا وفيرًا؟... هنا تتجلّى مشكلة أخرى في التهليل الساذج لقنبلة باكستان وكوريا الشمالية، وانتظار القنبلة الإيرانية لعلّها تأتي من غيْبٍ بعيد... فالنماذج الثلاثة وبنظرةٍ عاقلةٍ قليلًا لبيئة كلّ منهم الأصليّة، نجدهم يفتقرون لأي فتنة أو جمال، فهي جميعًا نماذج تُجسّد مقولة "الجزيرة النووية السابحة فوق بحرٍ من البؤس!".
(خاص "عروبة 22")