تمتلك إسرائيل ترسانةً نوويةً قدّرتها هيئات معنيّة، منها "اتحاد العلماء الأميركيين"، و"معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام"، بنحو 90-200 رأس نووي، وما خفي أعظم، فضلًا عن إمكانياتٍ متطوّرةٍ في مجال السلاح الكيميائي والبيولوجي.
وعلى الرَّغم من سياسة "الغموض النووي" التي تتّبعها، فإنّ صور الأقمار الصناعية، وشهادات خبراء مُنشأة "ديمونة" (كحالة المتخصّص النووي الإسرائيلي موردخاي فعنونو)، أكدت حجم الترسانة الإسرائيلية ومدى تطوّرها.
هذا الوضع صنع سابقةً فريدةً في تاريخ العلاقات الدولية، دولة تمتلك أسلحة دمار شامل، سرًّا وعلانيًةً، من دون توقيع معاهدات ولا التعرّض لأيّ عقوبات، في قلب منطقةٍ مشتعلة. وحدث ذلك برعايةٍ ودعمٍ استراتيجيَيْن شاملَيْن من القوى الكبرى، خصوصًا الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وجرى استثناء إسرائيل بشكلٍ مقصودٍ من قواعد القانون الدولي.
الترسانة النووية الإسرائيلية أداة لردع الدول العربية والإسلامية حتى لا تتوحّد عسكريًا
ويتّبع الغرب، بخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، سياسة ازدواجيّة معايير واضحة. فبينما يفرض عقوباتٍ على إيران بسبب برنامج نووي لم يثبت أنّه عسكري، وحاصر العراق وليبيا وسوريا، ويُحاصر كوريا الشمالية، يمتنع تمامًا عن فتح الملف الإسرائيلي!.
"الدولة الاستثناء"
تمّ فرض مفاهيم القوّة، واعتبرت القوى الكبرى إسرائيل "الدولة الاستثناء" وحليفًا استراتيجيًّا لا يمكن المساس به. وسوّقت لفكرة أنّ الترسانة النووية الإسرائيلية حقّ مشروع للدفاع عن الوجود، وأداة لردع الدول العربية والإسلامية حتى لا تتوحّد عسكريًا. والأخطر أنّ هذا التواطؤ أصبح منظومةً ممنهجةً، إذ ترفض الدول الغربية الإشارة للسلاح النووي الإسرائيلي في قرارات مجلس الأمن أو مؤتمرات "NPT".
وفكرة "الدولة الاستثناء"، منحها حصانةً سياسيةً ضدّ أي مُساءلة دولية وشرعية ضمنية من قِبل حلفائها الغربيين على تجاوزها للمعاهدات الدولية، ومَنَحَهَا ورقة تهديد مستترة يمكن تحريكُها عند الحاجة لابتزازٍ سياسيّ أو عسكريّ. وهذا يضرب فكرة النظام الدولي المُتوازن، وهو بدوره ما أدّى إلى انعدام التوازن العسكري الإقليمي بامتلاكها السلاح النووي خارج أي رقابةٍ دوليّة.
تجاهُل الغرب للترسانة النووية الإسرائيلية تواطؤ استراتيجيّ مُمنهج
وتحافظ إسرائيل على تفوّقٍ نوعيّ يمنحها حرية تحرّك عسكرية واسعة من دون خشيةٍ من ردعٍ متكافئ من دول الجوار، ممّا يخلق معضلةً أخلاقيةً وعسكريةً، ويزيد من هشاشة الأمن الإقليمي.
ومن الزاوية الاستراتيجية فإنّ إبقاء إسرائيل خارج المعاهدات الدولية الخاصّة بحظر أسلحة الدمار الشامل يُمثّل ركيزةً في استراتيجيتها الأمنيّة، بما يسمح لها بِحُريّة مناورةٍ غير مُقيّدةٍ ويمنع قيام توازنٍ استراتيجيّ حقيقيّ في الشرق الأوسط.
وهذا الأمر له انعكاسات استراتيجية خطيرة، فاستمرار إسرائيل في امتلاك أسلحة الدمار الشامل من دون رادع يعمل على إضعاف المصداقية الدولية ويُفقد الدعوات الغربية، بخاصة الأميركية، لمواجهة البرامج النووية الإيرانية أو الكورية الشمالية، كثيرًا من مصداقيتها أمام رفضِها المُطالبة بنزع السلاح الإسرائيلي أو إخضاعه للرقابة.
سياسيًّا، يُمثّل استمرار إسرائيل خارج إطار حظر أسلحة الدمار الشامل إشكاليةً مُزدوجةً؛ إذ يُعمّق من أزمات الشرعيّة الدوليّة، ويُفاقم من تصدّع العلاقات الإقليمية، وهذا من شأنه أن يُعرقلَ إنشاء منطقةٍ خاليةٍ من أسلحة الدمار الشامل، حيث يقف التعنّت الإسرائيلي عقبةً دائمةً أمام أي مشروع دولي أو إقليمي لتحويل الشرق الأوسط إلى منطقةٍ منزوعةٍ من هذه الأسلحة.
ويؤدّي ذلك الأمر إلى إضعاف الأمن الإقليمي، فغياب معاهدةٍ إقليميةٍ شاملةٍ تضمّ إسرائيل، يترك المنطقة رهينةً لمعادلات القوّة النووية غير المتوازنة، ويُعقِّد أي مبادرةٍ للسلام الشامل أو الاستقرار طويل الأمد. كما يكشف عن ازدواجية السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، حيث تصرّ على نزع أسلحة دمارٍ شاملٍ في دولٍ معيّنةٍ (العراق سابقًا، وإيران حاليًا)، في حين تتجاهل إسرائيل.
هذا الموقف الإسرائيلي المُنفرد يُمثّل تحدّيًا مُستمرًّا للشرعية الدولية، ويخلق اختلالاتٍ خطيرةً في معادلات الرّدع الإقليمي والأمن الجماعي، ويفتح المجال لمخاطر سباق تسلّحٍ مُحتملٍ في الشرق الأوسط.
إنّ أي مشروعٍ جاد لتحقيق استقرار الشرق الأوسط لا يُمكن أن ينجح ما لم يُخضع السلاح الإسرائيلي غير الشرعي للمُساءلة الدولية، ويتمّ إدماج إسرائيل ضمن معاهدات حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، مع وضع آلية رقابةٍ وتفتيشٍ على منشآتها.
يجب على العرب ودول العالم الحرّ تحويل ملف السلاح النووي الإسرائيلي من "قضية مُغيّبة" إلى "ملفّ صدارة"
وتجاهُل الغرب للترسانة النووية الإسرائيلية هو تواطؤٌ سياسيّ استراتيجيّ مُمنهجٌ، يخدم أهدافًا وظيفيّةً، لكنّه يُدمّر مِصداقية القانون الدولي ويدفع النظام العالمي إلى المزيد من الانقسام والصراعات.
والسّؤال الذي سيواجه الغرب في العقود المقبلة: كيف يمكن المطالبة بإقليمٍ خالٍ من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط من دون تفكيك الترسانة الإسرائيلية؟ إذا ظلّت إسرائيل خارج القانون الدولي، فستظلّ المنطقة رهينة هشاشةٍ أمنيةٍ دائمة، وسيبقى النظام الدولي عاجزًا عن فرض قواعده على الجميع.
الدور العربي في مواجهة الصّلف الإسرائيلي
يجب على العرب كافّة، ودول العالم الحرّ، تحويل ملف السلاح النووي الإسرائيلي من "قضية مُغيّبة" إلى "ملفّ صدارة" في الأجندة السياسية الدولية والعربية، وإلّا فإنّ مستقبل الأمن الإقليمي سيظلّ عرضةً لانفجارات كبرى تقود إلى حروبٍ كارثيّة. وعلى الدول العربية استثمار حضورها في الأمم المتحدة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومؤتمرات مراجعة معاهدة "NPT"، للمطالبة العلنية بإخضاع إسرائيل لمعايير الرقابة الدولية نفسِها المفروضة على بقيّة دول المنطقة.
كما يمكن تحريكُ مبادرةٍ عربيةٍ جديدةٍ لمنطقةٍ خاليةٍ من أسلحة الدمار الشامل بناءً على مبادرة 1995، ويجب تحديث مبادرةٍ إقليميةٍ جامعةٍ تُطالب بتجريد المنطقة بالكامل - بما فيها إسرائيل - من أسلحة الدمار الشامل، مع دعمها ديبلوماسيًا وإعلاميًا، عربيًا وإقليميًا ودوليًا.
إن لم يتحرّك العرب بفاعلية فسيظل ميزان القوى مختلًّا لصالح إسرائيل لعقود مقبلة
ويمكن للدول العربية استثمار العلاقات الثنائية مع الدول الكبرى واستخدام أوراق الضغط العربية (النفط، والأسواق، والتحالفات الأمنية)، في التفاوض مع القوى الكبرى لطرح الملف النووي الإسرائيلي شرطًا ضمنيًّا لتحقيق توازنٍ أمنيّ إقليميّ مُستدامٍ وإنشاء تحالفٍ إقليميّ للمطالبة بتفكيك الترسانة الإسرائيلية، وتشكيل تكتلٍ إقليميّ يضمّ الدول العربية وإيران وتركيا وغيرها، للعمل المشترك على الضغط السياسي والديبلوماسي عبر المؤسّسات الدولية، ممّا يعزل إسرائيل سياسيًّا، ويفضح ازدواجية المعايير الغربيّة.
كما ينبغي تحفيز الرأي العام العربي والدولي عن طريق إطلاق حملاتٍ إعلاميةٍ وسياسيةٍ تفضح ازدواجية معايير الغرب في التعامل مع إسرائيل، وتسليط الضوء على خطر استمرارها "دولةً فوق القانون"، وتأثير ذلك في استقرار الشرق الأوسط والعالم؛ فالمسألة جدّ خطيرة، والعرب إنْ لم يتحرّكوا بفاعليةٍ، فسيظل ميزان القوى مختلًّا لصالح إسرائيل لعقودٍ مقبلة.
(خاص "عروبة 22")