كشف العدوان الإسرائيلي الهمجي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في الثالث عشر من يونيو، وقصف الولايات المتحدة للمواقع النووية الإيرانية عشية الثاني والعشرين من يونيو عن دروس عديدة تستوجب الوقوف عندها واستخلاص العبر منها.
أول هذه الدروس يتمثل في بحث إسرائيل وشريكها في العدوان الولايات المتحدة الأمريكية عما سموه "النصر المطلق" في غزة وفي مواجهة حركات المقاومة الفلسطينية، بعد رفض المقاومة وحركة "حماس" قبول "مقترحات ويتكوف" التى وفرت لإسرائيل إمكانية الزعم بأنها انتصرت وحققت أهدافها، غير أن رفض المقاومة قبول الإذعان للمطالب الإسرائيلية الأمريكية حرم هذا التحالف الشرير من إعلان الانتصار، ولم يبق أمامهم في غزة سوى القتل والتدمير، صعوبة تحقيق انتصار حاسم للحلف الإسرائيلي الأمريكي دفع الكيان المجرم ورئيسه الملاحق قضائيا على الصعيد الدولي، إلى تنفيذ الخطة الموضوعة سلفا للعدوان على إيران وبالتوافق والاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، أملا في الحصول على نصر يغطي على إخفاقهم المدوي في قطاع غزة الصغير والمقاومة التي لا تمتلك من السلاح إلا القليل ولكنها تملك من الإرادة الكثير.
التقت مصالح التحالف الشرير ورؤوسه المدبرة، فالمجرم نيتانياهو، طمح إلى دخول تاريخ الكيان الصهيوني بالعدوان على إيران وتصفية الخطر الذي يتخيله على الكيان، وإرجاء محاسبته الداخلية ومحاكمته، وتخفيض التوتر الداخلي الناجم عن فشله في غزة، أما "ترامب" فهو كان يبحث عن نجاح يميزه عن رؤساء أمريكا السابقين بعد فشله في الملف الأوكراني الروسي، وفشله في إملاء الشروط الأمريكية الإسرائيلية على إيران، في المفاوضات حول الملف النووي.
أما ثاني هذه الدروس فيتمثل في كشف وتعرية الموقف الغربي وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البريطانية وفرنسا وألمانيا؛ حيث نطقوا جميعا بالانحياز لإسرائيل "وحقها في الدفاع عن نفسها، وهي التي قامت بالعدوان على إيران وفق كل تعريفات العدوان ومعاييره القانونية، تجاهل هذا المنطق الأعوج أن من ينفرد بامتلاك السلاح النووي في المنطقة هي إسرائيل وحيازتها لعشرات الرؤوس النووية، وترفض إخضاع منشآتها النووية لإشراف وكالة الطاقة الذرية، وترفض كذلك التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما ترفض أيضا إعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووس.
فى حين أن إيران لا تملك السلاح النووي، بل وتحرم امتلاكه بناء على فتوى شرعية من القيادة الروحية، وانضمت إلى معاهدة حظر الانتشار وتشرف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على منشآتها النووية بل وقبلت في المفاوضات التي أجرتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بعدم امتلاكها السلاح النووي، مقابل رفع العقوبات والاحتفاظ بالقدرة على تخصيب اليورانيوم في الحدود المسموح بها للأغراض السلمية والمدنية.
مع استمرار إسرائيل في ارتكاب جريمة الإبادة والتجويع والتهجير للشعب الفلسطيني، كانت العديد من الدول الغربية، وعلى رأسها المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وكندا تفكر في الاعتراف بالدولة الفلسطينية وفرض عقوبات على إسرائيل وإعادة النظر في اتفاق الشراكة الإسرائيلية الأوروبية، ولكن سرعان ما انقلب الوضع مع بداية العدوان الإسرائيلي واصطف الجميع صفا واحدا لتأييد العدوان وتجاهل حقوق المعتدى عليه أى إيران والمنطقة، وقد أسقط هذا الموقف القناع عن الغرب، أصبحت انحيازاته أكثر وضوحا وسفورا وتتمحور حول اعتبار إسرائيل جزءا لا يتجزأ من الحضارة الغربية، الموغلة في جرائم الإبادة في أمريكا وإفريقيا وجرائم العبودية والاستعمار والتفوق المطلق للرجل الأبيض.
غير أن الإيمان بالقوة وتقديسها من قبل إسرائيل والتحالف الغربي يخفي وراءه خواء روحيا عميقا، وينطوي على سوء تقدير لمصادر القوة التي تحظى بها إيران، والتي تزاوج في رد العدوان بين الإرث الإسلامي الشيعي وبين الإرث القومي الفارسي، وهو ما تبين بجلاء في استرداد إيران لتوازنها وقدرتها على استيعاب الصدمة والمبادرة بالرد على العدوان، في بضع ساعات وفاجأت العدو الإسرائيلي بردود مزلزلة صاروخية طالت البنى الأمنية والعلمية والعسكرية، وبعد أن استطاعت إيران توجيه ضربات لإسرائيل اضطر ترامب ونيتانياهو لإعلان وقف إطلاق النار.
يطمح الكيان المجرم وحليفه الأمريكي الغربي إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط، ورسم معالمها وفق متطلباته، ووفق تحقيق الأمن المطلق من التهديدات، سواء الفعلية أو المتخيلة، ويمتلك أجندة لإضعاف وإخضاع الكيانات الكبرى التاريخية القائمة في المنطقة وحرمان هذه الدول من أي فرصة للتعافي والصمود والتنافس؛ وذلك استنادا إلى محاولة تفكيك البيئة المعادية للكيان الإسرائيلي، وبيئة المقاومة لنفوذه وتوسعه وتنكره لحقوق الشعب الفلسطيني، بل والأكثر من ذلك تغيير الوضع الجيو استراتيجي العالمي من خلال الدخول إلى دائرة النفوذ والتعاون التي تربط الصين وروسيا الاتحادية بدول المنطقة ومشروع الحزام والطريق.
بيد أن مثل هذا المشروع يصطدم تحقيقه أولا بأن الدخلاء عموما، وعلى رأسهم الكيان الإسرائيلي لا ينجحون غالبا في مهمة تغيير هذه المنطقة، التي تزخر بمصادر المقاومة الظاهرة والخفية، خاصة أن المنطقة تضم دولا تشغل حيزا مهما في التاريخ والحضارة، وتتميز بأعماق ثقافية وروحية وذاتية تستعصي على الإخضاع والانصهار في المخططات الخارجية.
مشروع الكيان المجرم الذى يتخذ بعدا إقليميا ودوليا على الصعيد الاستراتيجي والسياسي، يظل مرهونا بتصفية القضية الفلسطينية وإسكات صوت الشعب الفلسطيني ووأد حل الدولتين وتنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى والخلاص التوراتي، وهو ما يجمع بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ولا شك أن خلط الأوراق، وتضارب الأهداف وهما لعبة إسرائيل المفضلة لن يفلح في تحقيق أهداف الكيان المجرم بل يزيدها تعقيدا، وتكشف عن وجهه وصورته القبيحة وهشاشة تكوينه وحدود قوته التي يقبع وراءها الخوف من المستقبل وفقدان الأمن الذي لن يفارقها إلى أجل غير معلوم.
(الأهرام المصرية)