في ركن أحد المقاهي بحي الدقي بالقاهرة، كانت مجموعة من الأشقاء السودانيين يجلسون بجواري، فضولي الصحفي دفعني لمتابعة أحاديثهم، ولم لا، فأنا صحفي، وهؤلاء أبناء دولة شقيقة تعيش أزمة كبيرة؟ تجولت بين ملامحهم جميعاً، نظراتهم لم تخفِ أسى كامناً، وحالة ترقب وانتظار مدة ساعة تقريباً قضيتها بجوارهم، كانت جلستهم أشبه بغرفة متابعة لما يدور في وطنهم.
أحدهم يتحدث إلى ذويه في العاصمة الخرطوم، وآخر يفتش في هاتفه عن أخبار الحرب، وثالث يسأل أحدهم بنبرة ما بين التفاؤل والتشاؤم: هل زيارة الفريق الأول الركن عبدالفتاح البرهان إلى مصر ستكون بداية تحول للوصول إلى حلول لإيقاف الحرب الدائرة؟
وقع السؤال على مسامعي لم يكن سهلاً، فالسودان بلد له محبة عظيمة وخصوصية متفردة، شعرت بأن صاحب السؤال يتقفى أثر الأزمة، وتسكنه لهفة وشغف السماع لخبر مفرح، نعم الأوطان غالية، والتفريط فيها ليس سهلاً، والدروس ماثلة أمامنا على مر التاريخ.
تملكتني جسارة المُحب، اقتحمت جلستهم، صافحتهم جميعاً، فابتسم أحدهم وأصر على جلوسي معهم.. تعارفنا.. طلب أحدهم أن يسمع تقديري لمستقبل الحرب السودانية.
بدأ حديثي متفائلاً، قلت لهم المشهد صعب، ولكن الخروج منه ليس مستحيلاً، نحن نتحدث عن دولة مهمة ومحورية وكبيرة بحجم السودان، دولة لها اعتباراتها الجيوسياسية في القارة والمنطقة العربية والإقليم، بل في العالم كله، ومن ثم فإن استمرار الحرب ليس في مصلحة استقرار هذه الخرائط، ولا سيما أننا نعيش في عالم منهك، لا يحتمل مزيداً من الإرباك.
لا أحد ينكر نزيف الخسائر غير المسبوق الذي تعرض له السودان منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل الماضي، فكل تقارير الأمم المتحدة تحذر من وصول الأوضاع في السودان إلى درجة الكارثة، ولكن كما ذكرت لكم في بداية حديثي أن وضع حد لهذه الحرب ليس مستحيلاً.
قاطعني أحدهم متسائلاً: وما الشواهد على ذلك؟
قلت له: ما لمسته في كلمة الفريق الأول الركن عبدالفتاح البرهان في أثناء زيارته مصر يوم الثلاثاء الماضي يشير إلى أن رئيس مجلس السيادة السوداني يتحرك بطمأنينة تؤكد حتمية الحفاظ على السودان، وعلى مؤسساته، وأن الجيش السوداني ليس لديه نزعة للحكم، مؤكداً التزام القوات المسلحة السودانية ضمان فترة انتقالية حقيقية، ثم إجراء الاستحقاقات الدستورية والقانونية، ويختار الشعب السوداني من يمثله وفق انتخابات حرة نزيهة، ويحدد الشعب مصيره من دون أي تدخلات.
وهذه الرسائل من وجهة نظري تستحق التوقف أمامها كثيراً، ولا سيما أنها صادفت قبولاً واسعاً من الشعب السوداني، بل عدها بعضهم دعوة من البرهان إلى كل القوى السياسية السودانية للمشاركة في التوصل إلى حل يقود المشهد إلى الأمام، وهنا أرى أن البرهان وضع الجميع أمام مسؤولياته الوطنية.
بينما كنت أواصل حديثي، بدا الحرص واضحاً من الأشقاء السودانيين على الإنصات الجيد، وخاصة حينما أكدت لهم أهمية استقرار السودان وضرورة الحفاظ على أمنه القومي وعدم تركه للعواصف والأعاصير تذروه نحو هاوية التقسيم والتفتيت، فهذا البلد لا يستحق سوى الاصطفاف خلفه والعبور به إلى شاطئ الأمان، فلا يجب ولا ينبغي أن ننسى ماذا فعل ما يسمى الربيع العربي بعواصمنا العربية، لا تزال تئن من التشوهات التي طالتها بفعل الفوضى والتخريب، ولا تزال تحاول استعادة عافيتها، ومن ثم علينا جميعاً، وفي المقدمة أنتم الأشقاء السودانيون أن نتعلم من التجارب السابقة ونتكاتف من أجل الحفاظ علي هويتنا الوطنية، فكل شيء يمكن تعويضه إلا الأوطان.
("البيان") الإماراتية