"البشائر" الايجابية التي رافقت 18 يومًا من مفاوضات وقف النار في العاصمة القطرية، الدوحة ما لبثت أن تبدّدت وحل مكانها "سواد قاتم" وخوف على من تبقى من سكان قطاع غزة الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر التوصل الى اتفاق للهدنة لمدة 60 يومًا وادخال المساعدات الانسانية بعد اشتداد الجوع والفقر وسوء التغذية نتيجة الحصار المطبق الذي تفرضه اسرائيل منذ شهر آذار/ مارس الماضي بهدف اخضاع الفلسطينيين وكسرهم ودفعهم للتهجير وذلك كله برعاية أميركية بعناوين مختلفة.
ولكن المثير للاستغراب هو الهجوم العالي اللهجة الذي تبناه المبعوث الاميركي الى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف الذي هدد علنًا حركة "حماس" بـ"درس خيارات بديلة لإعادة الرهائن (الاسرائيليين) إلى ديارهم ومحاولة تهيئة بيئة أكثر استقرارًا لسكان غزة" بعدما وصف ردها الاخير على المقترح المقدم لوقف النار بأنه يُظهر "بوضوح" عدم رغبتها في التوصل إلى اتفاق "رغم الجهود الكبيرة التي بذلها الوسطاء، لكن لا يبدو أن "حماس" لديها نية حسنة". كما اعلن عن "إعادة الفريق المفاوض من الدوحة لإجراء مشاورات بعد الرد الأخير من "حماس". وشكل هذا التصريح صدمة لدى المتابعين كما قيادات الحركة نفسها بعدما كانوا ينتظرون وضع اللمسات الاخيرة على إتفاق لوقف النار وليس العودة الى نقطة الصفر.
وتعي واشنطن كما تل أبيب ان الحركة الفلسطينية تمر بظروف صعبة بعد مقتل كبار قيادتها كما تعرضها لضغوط الخارجية والداخلية بعد ازدياد معدلات السخط عليها داخل القطاع المنكوب وخروج عدة مظاهرات مطالبة اياها بالرحيل، ما يجعلها في موقع "ضعف" لا "قوة" لفرض شروطها. ومن هذا المنطلق تحديدًا كان التصعيد الاميركي الذي حتى تجاوز في مضمونه كلام رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قال "نعمل على التوصل إلى اتفاق جديد للإفراج عن رهائننا، لكن إذا فسرت "حماس" استعدادنا للتوصل إلى اتفاق على أنه ضعف أو فرصة لفرض شروط استسلام من شأنها أن تُعرض دولة إسرائيل للخطر، فهي ترتكب خطأ فادحًا". وكانت الحركة في ردها بدت "ايجابية" و"مرنة" حيث وافقت على الكثير من البنود المحورية العالقة بين الجانبين وأجرت على بعضها الاخر تعديلات "طفيفة."
التعديلات التي شملت خرائط الانسحاب الاسرائيلي من القطاع وآليات توزيع المساعدات وعدد الاسرى المنوي الافراج عنهم استغلتها الولايات المتحدة واسرائيل لقلب الطاولة بأكملها على الحركة وحشرها في الزاوية علّها تقدم المزيد من التنازلات التي ترضي اسرائيل وتجعلها في موقع متقدم جدًا في المباحثات بعدما حققت سيطرة عسكرية واسعة في الميدان. وفي هذا السياق، قالت "حماس" إنها تستغرب تصريحات ويتكوف "السلبية تجاه موقف الحركة، في وقت عبّر فيه الوسطاء عن ترحيبهم وارتياحهم لهذا الموقف البنّاء والإيجابي، الذي يفتح الباب أمام التوصل إلى اتفاق شامل"، مؤكدة حرصها على استكمال المفاوضات والانخراط فيها "بما يساهم في تذليل العقبات والتوصل إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار".
في المقابل، أشار مصدران مطلعان على المفاوضات في قطر لوكالة "رويترز" الى أن "قرار إسرائيل لا يشير بالضرورة إلى أزمة في المحادثات"، بينما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤولين من عدة دول أن "انسحاب إسرائيل والولايات المتحدة من المحادثات ربما يكون تكتيكيا". ومما تقدم يبدو ان هناك نوايا مبيتة أميركية - اسرائيلية تهدف الى المماطلة وتضييع الوقت فيما تستكمل قوات الاحتلال حرب الابادة والتجويع والتعطيش دون حسيب او رقيب. وتسابق المجاعة المفاوضات المتعثرة بعدما فقد الفلسطينيون كل شيء يملكونه خلال هذه الحرب المتواصلة منذ 22 شهرًا وباتوا يرفعون الصوت عاليًا للانتباه الى معاناتهم اليومية وهم ينتظرون ساعات امام طوابير المطابخ الخيرية التي تعمل بطاقتها الدنيا ويتعرضون للنار والقتل بالقرب من مراكز توزيع مساعدات "مؤسسة غزة الانسانية" والتي تحولت الى "مصائد للموت".
تزامنًا، برز معطى ايجابي رغم كل السوداوية المحيطة وتمثل بإعلان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون نيته الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين امام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر المقبل "وفاء بالتزامها التاريخي بتحقيق السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط" في موقف لاقى ترحيبًا فلسطينيًا وعربيًا فيما انتقدته كل من الولايات المتحدة واسرائيل التي نددت به على لسان نتنياهو واضعة إياه في اطار "مكافأة الإرهاب" و"يشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل". أما وزير الدفاع الاسرائيلي يسرائيل كاتس فوصف قرار ماكرون بأنه "استسلام للإرهاب ومكافأة لحماس"، وأضاف "لن نسمح بقيام كيان فلسطيني يهدد أمننا ووجودنا". الموقف الفرنسي ترافق مع تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" يشير الى أن عددًا من وزراء الحكومة البريطانية يمارسون ضغوطًا على رئيس الوزراء كير ستارمر، لحثه على الإسراع في اتخاذ قرار مماثل ويقضي بالاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية.
وتخسر تل ابيب دعم ابرز حلفائها الاوروبيين بعد انتقادهم المستمر لسياساتها المتبعة في غزة واستخدام التجويع كسلاح حرب بينما تستمر واشنطن بتوفير كل الدعم لاسرائيل للمضي قدمًا بمخططاتها التوسعية التي تبدأ من غزة ولا تقف عند حدود لبنان وسوريا. ففي المعطيات السورية، برز تطور لافت تمثل بعقد اجتماع غير مسبوق بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر في العاصمة الفرنسية باريس. ويقود الموفد الاميركي توم برّاك هذه المساعي لرأب الصدع وتقليص الفجوات خاصة بعد احداث السويداء الاخيرة وقال "هدفنا كان الحوار وتهدئة الأوضاع وهذا بالضبط ما حقّقناه. لقد جدّدت كل الأطراف التزامها مواصلة هذه الجهود". يُذكر ان هذا ليس اللقاء الاول بين السوريين والاسرائيليين بل سبقه اجتماع آخر عُقد في 12 تموز/ يوليو في باكو، على هامش زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى أذربيجان.
هذا التطور ترافق مع الانفتاح السعودي المستمر على الادارة السورية الجديدة وتوفير مظلة امان لها من اجل تحسين الاوضاع الاقتصادية والانطلاق نحو خطة التعافي المبكر. وشهد "منتدى الاستثمار السوري - السعودي 2025" الذي انطلق أمس بحضور الرئيس الشرع نفسه على ضخّ استثمارات بلغت قيمتها 24 مليار ريال (6.4 مليار دولار) مما يعكس حجم الاولوية القصوى التي توليها الرياض لدمشق. بدوره، اعتبر مسؤول سوري لـ"الشرق الأوسط" أن انعقاد المنتدى في ظل حالة عدم استقرار تشهدها بعض المناطق "يرسل رسالة سياسية لكل من يريد أو يتخيّل أنه يستطيع زعزعة ثقة المستثمرين في الاقتصاد السوري".
ومن دمشق التي تحاول التقاط الاشارات الدولية والتوصل الى تفاهمات أمنية معينة مع الجانب الاسرائيلي الى لبنان الذي يفشل حتى الساعة بوقف الاعتداءات والانتهاكات الاسرائيلية المستمرة حيث شنّ العدو الاسرائيلي، أمس، غارة على بلدة عيتا الشعب الجنوبية ما ادى الى مقتل شخص فيما أغارت مقاتلاته على مواقع عسكرية، ومنها مستودعات أسلحة ومنصة قذائف صاروخية لـ"حزب الله" في جنوب لبنان، وفق ما صرح به المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي. ولا تتوقف الخروقات لاتفاق وقف النار منذ اليوم الاول لتوقيعه في حين تمر البلاد بمرحلة حساسة ودقيقة بعد زيارة الموفد الاميركي توم برّاك والذي وضع الكرة في الملعب اللبناني لنزع سلاح "حزب الله" وبسط السلطة الدولة على كامل اراضيها، رافضًا تقديم اي ضمانات لوقف الانتهاكات الاسرائيلية.
ايرانيًا، تنطلق اليوم محادثات تجمع بين وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي ودول الترويكا الاوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) في محاولة للتوصل الى تفاهمات بشأن الاتفاق النووي وذلك بعد حرب الـ12 يومًا التي شنتها اسرائيل بمؤازرة من الولايات المتحدة. وقد سبق اللقاء المرتقب اليوم في اسطنبول، اعلان عراقجي أن بلاده ستدافع عن حقوقها النووية، بما في ذلك تخصيب اليورانيوم. وهذا ما يشكل العقدة الاساسية ويحول دون التوصل الى اتفاق معين خاصة ان طهران تتمسك بالتخصيب وتضعه ضمن دائرة "خطوطها الحمر".
واليكم هنا ابرز ما جاء في عناوين ومقالات الصحف العربية الصادرة اليوم الجمعة:
كتبت صحيفة "عكاظ" السعودية أن "إسرائيل لا تعترف بحقوق العرب التاريخية في أراضيهم، فهي تريد الجولان ومزارع شبعا والضفة الغربية وغزة، وهي تتمادى في الحصول على أراضٍ لا تملكها من خلال إقحام آلتها العسكرية في أراضي بعض الدول المجاورة مدعومة بمساندة بعض الدول الغربية"، مشددة على أن "إسرائيل تدّعي أنها حريصة أشد الحرص على إجراء مفاوضات سلام جادة وبنّاءة مع العرب، ومن هنا اتضح لنا المفهوم الذي تقصده إسرائيل بالسلام، فهو هذا النوع من السلام الذي تريد أن تأخذ فيه كل شيء مقابل لا شيء تعطيه للفلسطينيين".
من جهتها، أشارت صحيفة "الرياض" السعودية الى أن "الأزمة الإنسانية غير المسبوقة في غزة لا زالت تراوح مكانها بل وتزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وكل ذلك يتم تحت أنظار العالم الذي في مآسٍ أقل من هذه يتحرك تحركًا سريعًا، ولكن في هذه المأساة لا يحرك ساكنًا وكأن الأمر ليس ذا أهمية رغم فداحته"، معتبرة أن "إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف سيعزز منطق السلام العادل والشامل والدائم المنشود، ودون ذلك ستستمر إسرائيل في غيّها وصلفها مستمرة في ارتكاب المجزرة تلو الأخرى دون رقيب أو حسيب".
وغداة الانتقادات المتزايدة لمصر لمنع ادخال المعونات الى قطاع غزة عبر معبر رفح، شنت صحيفة "الأهرام" المصرية هجومًا عنيفًا على المنتقدين موضحة أن "كل من يتهم مصر هو شريك للصهاينة في جرائم الإبادة، لأن موقف الدولة المصرية الصامد لن يتغير في الرفض الكامل للتهجير إلى سيناء أو خارج قطاع غزة إلى دول أخرى، لأن ذلك يعني ببساطة إنهاء القضية الفلسطينية، وتقف مصر بمنتهى القوة أمام تمرير هذه الخطة الشريرة". وأضافت "للعالم الذي يقف متفرجا ولا يتحرك لردع نتنياهو وإجباره على فتح جميع المعابر مع القطاع، فالدولة المصرية لم تغلق معبر رفح المصري منذ بدء الحرب ولليوم، وأقامت العديد من المراكز اللوجستية..فمصر تحافظ على فلسطين وتمنع الصهاينة من تنفيذ أحلامهم التاريخية"، بحسب تعبيرها.
ورأت صحيفة "الجريدة" الكويتية أن "الخلاف اللبناني حول ملف السلاح يؤسس إلى انقسام عمودي حادّ مرجح للتفاقم أكثر في ظل عدم وصول الولايات المتحدة إلى اتفاق على آلية لتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل وحصر السلاح بيد الدولة". وقالت "هذا الواقع، يؤسس لانقسام لبناني يتبلور أكثر فأكثر، في البداية اتخذ طابع رفض حصر التفاوض مع الأميركيين حول الورقة بالرؤساء الثلاثة، والمطالبة بعرض المقترح الأميركي على طاولة مجلس الوزراء واتخاذ قرار بشأنه، على أن يعرض لاحقًا على مجلس النواب للمصادقة عليه".
تحت عنوان "بعد جولة برّاك... آب شهر الترقّب الحذر للتوجّهات الإسرائيلية"، لفتت صحيفة "اللواء" اللبنانية الى أن "(الموفد الاميركي توم) برّاك طلب من لبنان أن يكون نسخة عن سوريا في تلبية المطالب الأميركية والإسرائيلية، سواء بإجراء ترتيبات أمنية تريح كيان الاحتلال ولا تضمن سلامة الأراضي اللبنانية ولا حق الدفاع المشروع عن النفس، أو بالتوجه نحو تطبيع العلاقات"، ولكنها نبهت الى أن "ما يطلبه صعب التحقيق، فلبنان ليس سوريا، وتركيبته المتعددة تفرض دومًا التوافق الداخلي على كل كبيرة وصغيرة مهما كانت طبيعتها، سياسية أو أمنية أو إدارية أو إجرائية".
(رصد "عروبة 22")