منذ أن وسعت إسرائيل عملياتها العسكرية لتشمل منطقة دير البلح في وسط قطاع غزة، فإنها ضاعفت من الضغوط على السكان الفلسطينيين، الذين سبق أن نزحوا إلى المنطقة، التي نجت نسبياً من القتل والدمار الذي شهدته مناطق أخرى في غزة على مدى 21 شهراً من الحرب الإسرائيلية.
الهجمات على دير البلح التي قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن الهدف منها قطع "آخر شرايين الحياة" عن الغزيين، تعني أيضاً تغييراً في الاستراتيجية الإسرائيلية، نظراً إلى الاعتقاد الذي كان سائداً بأن حركة "حماس" تحتجز الأسرى الإسرائيليين في المنطقة. وفي رسالة ذات مغزى، استهلت إسرائيل هجومها بتدمير مكتب منظمة الصحة العالمية ومستودع تابع للمنظمة.
وتضم دير البلح أيضاً مستودعات للمواد الغذائية والطبية تابعة للأمم المتحدة، كما يقيم فيها من تبقى من موظفي المنظمة الدولية في قطاع غزة، وتنتشر فيها خيام مئات آلاف النازحين من مناطق أخرى من القطاع. ومع أوامر الإخلاء للمدنيين من دير البلح، فإن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، قدّر أن 87.8 في المئة من مساحة قطاع غزة باتت الآن مشمولة بأوامر إخلاء إسرائيلية أو واقعة ضمن مناطق عسكرية إسرائيلية.
توسيع الحرب الإسرائيلية إلى دير البلح والنيل مما تبقى من حضور للأمم المتحدة في غزة، يأتي في وقت يحتدم النقاش في المفاوضات الجارية لوقف النار حيال بند يتعلق بالجهة التي ستتولى توزيع المساعدات الإنسانية في مرحلة ما بعد الاتفاق. إذ ترفض إسرائيل أي دور للأمم المتحدة أو منظمات إنسانية أخرى، غير "منظمة غزة الإنسانية" التي يديرها مرتزقة أميركيون وتحولت إلى "كمائن موت" للفلسطينيين الجياع.
أما "حماس"، فإنها تصر على أن تتولى منظمات الأمم المتحدة توزيع المساعدات الإنسانية، بعيداً عن "منظمة غزة الإنسانية". بينما الموقف الأميركي يميل إلى إشراك الأمم المتحدة في توزيع الغذاء، إلى جانب "منظمة غزة الإنسانية". ويعتزم المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف السفر هذا الأسبوع إلى أوروبا، وقد يتوجه بعدها إلى الشرق الأوسط و"أمله كبير بأن نطرح وقفاً جديداً للنار وممراً إنسانياً لدخول المساعدات"، بحسب الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية تامي بروس.
ويشير الإصرار الإسرائيلي على التمسك بـ"منظمة غزة الإنسانية"، كأداة حصرية لتوزيع المساعدات، إلى تناغم مع سردية أن إشراك الأمم المتحدة في إيصال المواد الغذائية إلى غزة، سيمكن "حماس" مجدداً من وضع اليد على جزء كبير منها ومن ثم بيعها في الأسواق، لتوفير مصدر من مصادر إعادة التمويل. استخدمت إسرائيل منذ استئناف الحرب في آذار/مارس، التجويع، إلى جانب القصف وتوسيع العمليات البرية والتدمير، سلاحاً أساسياً من أجل حمل سكان غزة على الانقلاب على "حماس"، وإيجاد بديل منها. لكن ما حققته إسرائيل في هذا المجال بقي محدوداً.
ويريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقفاً للنار يضمن استفحال الكارثة الإنسانية في غزة، وصولاً إلى تحقيق "الحل النهائي" القاضي بدفع سكان القطاع إلى الاقتناع باستحالة العيش هناك، ومن ثم القبول بالخروج إلى إندونيسيا وليبيا وإثيوبيا، وهي الدول التي قالت إسرائيل إنها تحرز تقدماً في المحادثات التي تجريها معها، من أجل استقبال سكان من غزة.
واستهداف دير البلح يرمي إلى تحقيق هذا الهدف. وكل التنديدات والصرخات التي تصدر عن دول ومنظمات إنسانية لا تؤثر في الموقف الإسرائيلي. وعندما ينسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من منظمة "اليونيسكو" قبل يومين باعتبارها منظمة منحازة للفلسطينيين ضد إسرائيل، ويتهم الجامعات الأميركية بمعاداة السامية ويقطع عنها المساعدات الفيدرالية، لأن طلاباً فيها تجرأوا على الدعوة إلى وقف النار، فإن نتنياهو لا يرى نفسه ملزماً بالتنازل في غزة، حتى ولو وقعت كل دول العالم الأخرى، ودبجت بيانات لا تقدم ولا تؤخر.
(النهار اللبنانية)